محاولات تنظيم ب ك ك لنزع القدسيّة عن المقدّس الكوردستاني

فرمان بونجق

إذ لا يمكن اعتبار المشروع القومي الكوردستاني المتآلف والمتجانس مع توأمه الوطني وليدَ تغييرات وضعية طارئة ، لايمكن اعتباره أيضاً إلاّ مشروعاً قادماً من عمق التاريخ، مترسخاً إلى درجة لامتناهية في فكر ووجدان أفراد وجماعات مستدامة في الإطار الاجتماعي المرتبط بجغرافيةٍ لها مكانها، وتاريخياً لها حضورها الزماني أيضاً، مما يمنح تفسيراً لتلك الدرجة من الترسخ، والذي أضفى فيما بعد شكلاً من أشكال القدسية على المشروع، ناهيك عن صفة الاستمرارية التي اتّسمت تفاصيله بقدر هائل من التضحيات، عبر اندلاع ثورات وانتفاضات لايمكن لعاقل مجرد محاولة حصرها، وكذا ارتباط المشروع بأسماء قادةٍ عِظام كانوا على الدوام منارات لجحافل من الكورد المتعطشين للحرية والسلام، حتى أصبح هؤلاء القادة أيقونات يستحضرها التاريخ ليس من صفحاته المدونة، وإنما من وجدان ومشاعر أبناء الشعب الكوردستاني، ومن الحضور الدائم لمآسي ودماء أبنائه أيضاً. مما أسبَغَ هذه القدسية على مشروع لايزال يحتفظ بحيويته دون تراجع أوخفوت أو كلل..
في الآونة الأخيرة، وعلى مدى نصف قرن مضى تقريبا، تمكن الكورد وبقوة، من طرق مسامع شعوب الإقليم وقادتها، وأزاحت ـ وبشكل لا لبس فيه ـ اللثام عن طموحاتهم المشروعة، والتي تلخصت في البحث عن سبل حياة كريمة، أسوةً بجيرانهم من شعوب الشرق الأوسط التي لها صلة مباشرة بالقضية الكوردية وتأزّمها، وعلى ذات المسار، استطاع الكورد تسويق قضيتهم على مستوى الدول الفاعلة في الملفات الدولية الساخنة، مما كللت مساعيهم بلفت النظروبشكل مرضي إلى إعادة تقييم المشروع القومي الكوردستاني، واعتبر الكورد أن إعادة التقييم هذه تندرج تحت مسمى الإنجاز السياسي المقبول، أملاً في أن تُفتح المزيد من الأبواب المقفلة هنا وهناك. وعلى الرغم من بعض الكبوات، فإن أية مسيرة تاريخية لشعب بخصائص الكورد وتجربته السياسية الوليدة إلى حد ما، لابد من مثل هذه الكبوات، والتي بدورها تعزز من فاعلية المسيرة.
وبالحديث عن المسيرة، لابد من الإشارة إلى تجربة إقليم كوردستان العراق التنموية، وأقصد هنا بالتنموية، التنمية في مجاليّ التنمية البشرية، والتنمية العمرانية، وما صاحبهما من تحولات عميقة في تحسين القطاعات الخدمية، الصحة، التعليم، الطرق، إلخ .. إذ لايمكن للمراقب إلاّ أن يسجل انبهاره بهذه القفزات السريعة والمتوالية، في نقل المجتمع الكوردستاني من حالته الساكنة، إلى حالة من الديناميكية تفتقر إليها العديد من الدول المؤسساتية في هذا العالم. ومردُّ إشارتي إلى هذه التجربة يكمن في دحضِ الاتهامات التاريخية للعقل الكوردي من قبل الجماعات الشوفينية، والتي كانت ـ وعلى الدوام ـ تروّج عن عدم قدرة النخب الكوردستانية على إدارة الملفات السياسية والاقتصادية وسواها، ومرد ذلك برأيهم يعود إلى قصور في العقل الكوردي وقدراته الخلاقة، والآن وبعد أن انطفأت حملات الترويج تلك، وأثبت العقل الكوردي نجاعته في معالجة كافة الملفات ، وحتى الشائكة منها، تبدلتْ نغمة الحملات تلك، وسارت إلى نغمة أخرى أكاد أسمعها بين الفينة والأخرى، ومفادها ” لا يمكن العيش مع الكورد فهم شعب عنيف”!!.
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي دفع مجموعات أو تنظيمات كوردية، كتنظيم ب ك ك محاولةالنيل من إنجازات ومكتسبات الكورد التاريخية؟. ماهو دافعها الدفين لتبني بعض الأفكار الهجينة لكبح جماح تقدم المشروع الكوردستاني؟. أيعقل أن يكون هناك رابط يشبه ما يشبه حبل المشيمة بين هذه وتلك؟. في تقديري، المسألة لاتحتاج إلى المزيد من بذل الجهد، لتأكيد تلك العلاقة المتجذرة فكرياً وبالتالي سلوكياً بين ذاك الخطاب الشوفيني، وخطاب وسلوك تنظيم ب ك ك إزاء مجمل تطور القضية الكوردية ، عبر محاولة استهداف فكرة ترسيخ  بناء مؤسسات الدولة في إقليم كوردستان، والذي يعتمد أساساً ـ أي فكرة الترسيخ ـ على قاعدة الانتقال إلى التحضر المادي والمعنوي، وتوظيفهما بشكل مدروس لخدمة المشروع القومي الكوردستاني. إلاّ أن معظم المواقف والسلوكيات التي تبناها ب ك ك إزاء ما تقدم، اتّسم بالعنف غير المبرر كردّة فعل على النجاحات المتتالية لشعب إقليم كوردستان وقيادته وقواه الحيّة من جهة، ومن جهة أخرى فشل تنظيم ب ك ك من تحقيق أية مؤشرات إيجابية لمشروعه المزعوم ” تحرير وتوحيد كوردستان “، والانتقال إلى تبني مشروع الأمّة الديمقراطية الواحدة العابرة للقارات والمحيطات وأعالي البحار !!.
ومع أن مجرد مناقشة مفهوم” الأمّة الديمقراطية ” أمر يدعو إلى السخف، إلاّ أنني أميل إلى فكرة إحقاق مبدأ: الذي لي والذي للآخر، والمقاربة بينهما، والاستعانة بآراء المراقبين والمثقفين إن وُجِدتْ، وهي وفيرةٌ للغاية. فالمسألة برمتها تتعلق ” بالديمقراطية المحلية ” وهي فكرة منسوبة إلى اجتهادات من هنا وهناك، وتبناها أحد الأمريكيين المتهمين بـ (الجنون الافتراضي)، وفحوى هذه الديمقراطية التوسع في سلطات البلديات، وتفويضها بتوسيع صلاحيات التجمعات السكانية، على أساس الحكم التشاركي في نطاق الأحياء ، القرى، البلدات وبقية التجمعات السكانية التابعة إداريا للبلدية. ولا يتعلق الأمر بأية منظومات حكم سياسية البتة، وهذا بدوره يُنسب إلى ما مفاده جودة الديمقراطية في الإدارة المحلية، ولا يُنسب في الواقع إلى إدارة سياسية ما. وقد تقود هذه التشاركية في الإدارة المحلية إلى زيادة منسوب التنمية على المستوى المحلي، ولكن وعلى الجانب الآخر، قد تقود هذه التشاركية إلى خلق حالات من الأوليغاركية ( الطغمة الحاكمة)، بسبب السيطرة على بعض الموارد المالية المحلية. هذه الفكرة التي لمعت من بعيد لفيلسوف الطغمة الحاكمة في كوردستان سوريا، والتي أساس بنيانها ـ أي الهيكلية ـ الكومونة ” الكومين “، والتي هي أصغر وحدة إدارية في هيكلية الدولة، والتي تتبع إدارياً للبلدية، وبالتالي يسيطر عليها وبشكل مطلق نمط سياسي ذو لون واحد. بمعنى إذابة كافة الفعاليات أيّاً كان شكلها ضمن الكومونة أو الكومين بحسب الترجمة عن الفرنسية. وهي مأخوذة من كومونة باريس إبّان الثورة الفرنسية على أية حال، ناهيك عن الاستهداء بتجربة القذافي التي استهدفت تقسيم المجتمع عمودياً، بدءاً من الكومون ووصولاً إلى اللجنة الشعبية العامة ( مجلس الوزراء ). وهذا مادفعني للقول في مقالة سابقة: بأن هذه الفلسفة مجموعة أفكار تم توليفها من هنا وهناك.
الحقُّ يُقال، أن مشروع الأمة الديمقراطية، لايغدو كونه سوى مشروعاً تنافسيّا مع المشروع القومي الكوردستاني، أو ندّاً له في كثير من الحالات، والذي تجلّى حتى هذه اللحظة،  بأن تجربة إقليم كوردستان بات يشكل الرافعة لهذا المشروع، إلاّ أن أصحاب المشروع التنافسي والذين يكثرون من الضوضاء غير المفهومة حول تجربة روج آفا، مصحوبة بإصرار عجيب على إيذاء شعوب المنطقة، وفي مقدمتهم أبناء الشعب الكوردي في أقاليمه الأربعة، وعبر آليات أقل ما يُقال عنها بأنها آليات إجرامية . كمِثل الاعتقال، الخطف، النفي، السحل، الاغتيال، تجنيد الأطفال القُصر، ناهيك عن التفرّد بإدارة الموار د البشرية والاقتصادية، وليس الإقصاء السياسي المرتكز إلى قوة السلاح، إلاّ أحد أشكال هذه الجرائم الممنهجة، والتي ماعادت خافية على أحد، وكل ما تقدم يجري تحت يافطة الديمقراطية.  
المصدر صحيفة كوردستان.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…