د. محمود عباس
خسرت الولايات المتحدة الأمريكية:
وكانت البداية بعد السنة الثانية من اجتياحها لأفغانستان، ولولا خطأ تقديرات مستشاريهم الإستراتيجيين، لخرجت حينها منتصرة، لكنها سقطت في المستنقع الذي غرقت فيه الإتحاد السوفيتي، وقبلهما بعقود بريطانيا، وقبلهم بقرون الإسكندر المقدوني.
خسائرها مقارنة مع غيرها من الدول، هي الأكثر ضجيجا، كإمبراطورية تبجحت حينها بنشوة الظفر على الإتحاد السوفيتي فيها، لكن تداعياتها المعنوية اليوم على الداخل الأمريكي والشعوب المتحالفة معها، غطت على مصاريفها المتجاوزة (3) تريليون دولار، وما صرح به الرئيس جو بايدن، لم تكن سوى تكاليف تدريب الجيش الأفغاني والبنية التحتية حول العاصمة وغيرها، إلى جانب مقتل قرابة ألفي جندي والألاف من الجرحى.
والأنكى من ذلك عودة طلبان بعدما كادت تختفي عن الساحة السياسية والتنظيمية، ولربما ستعود معها القاعدة، وهو ما يتم البحث فيه الأن ضمن الأروقة السياسية الخلفية لمعظم الدول المعنية. ولا نستبعد أن تتكرر التجربة الفاشلة هذه على أرض كوردستان، فيما لو أتبعت القوى الكوردستانية الأساليب السياسية القديمة الخاطئة، ومنهجية الجيش الأفغاني، الذي أتكل بكليته على الجيش الأمريكي، ولم يتمكن الاستفادة من حضورها على مدى عشرين سنة.
ومن الغرابة أن فشلهم تفاقم، بدءً من سنة 2003 يوم مطاردة القاعدة وفلول طالبان في جبال تورا بورا بالقوات الأفغانية الذين سهلوا لقيادات الطرفين من الهروب إلى باكستان، وقد كانوا متوقعين أنه قد تم تدريبهم بالشكل الكافي، لكن النتيجة الكارثية أدى إلى انعدام ثقة الأمريكيين بهم، وعوضاً من الانسحاب، فضل الاستراتيجيون السياسيون إرسال المزيد من القوات، خوفا من إحلال روسيا وإيران مكانهم، ودفعوا بالناتو بعمل مماثل، ووسعوا من تدريب الجيش الأفغاني وتسليحه، دون إشراكه في المعارك، المؤدي إلى أنتشار الفساد بين قياداته، والتحول إلى جيش أتكالي، ونتائجها واضحة اليوم أمام تقدم الطالبان، حيث انعدام المقاومة، علما أن تسلحيهم أكثر تطورا وعددهم يتجاوز ثلاثة أضعاف الطالبان، قرابة 189 ألف جندي مقابل 75 ألف من الطلبان.
والمتوقع أن نهاية الحكومة المركزية؛ ستؤدي إلى نشوب حرب، بل ربما حروب أهلية داخلية، وقد تنقسم الطلبان أيضا على بعضها في المستقبل لأنها متكونة من قوى قومية ومذهبية متضاربة، لكنها الأن متكاتفة في مواجهة أمريكا والقوات الحكومية، وهو ما نوه إليه وزيري الخارجية والدفاع البريطاني.
استراتيجية إدارة (جو بايدن) العصرية:
للتغطية على هذه الخسارة، تتم الدعاية لإستراتيجية أمريكية عصرية، تتبناها إدارة (جو بادين) وتسمى بإستراتيجية (القوة الناعمة-التعامل المرن) أي إرضاخ الدول بالطرق الدبلوماسية بسند غير مباشر من قوتيها العسكرية والاقتصادية، مقابل ما أنتهجه الرئيس السابق (دونالد ترمب) التحول من إمبراطورية تستخدم القوة العسكرية إلى إمبراطورية ذات هيمنة اقتصادية، تفرض شروطها على الدول بقوتها الاقتصادية، والتي لم تتلقى الصدى لدى الحزب الديمقراطي، خاصة بعد صعود الصين وبعض الدول الأخرى اقتصاديا، وتحول الشركات الأمريكية إلى شركات إمبريالية عالمية لا تحدها الجغرافيات، ومن أولوياتها الأرباح وليس البعد الوطني أو القومي.
يقال في بحوث تطور الإمبراطوريات، أن مثل هذه التحولات، هي مراحل بدايات النزول من القمة، أو صعود القطب المنافس، وهو ما يلاحظ في الواقع السياسي الأمريكي، علما أنها لا تزال الدولة التي تقف على اقتصاد توازي اقتصاد أوروبا والصين واليابان وروسيا معا، وسوق ذات قوة استهلاكية تتكالب جميع الشركات العالمية والدول المصنعة صرف بضائعها فيه، وبوابات تجارية تنعدم أمامها المنافسة، تتجاوز عدة تريليونات من الدولارات، وقوة عسكرية لا تجاري، رغم كل ما يقال عن القطب الروسي الصيني، وما يتم الحديث عن بعض الدول التي تدعي أنها خرجت من تحت عباءتها، وتصمد أمامها كتركيا وإيران وغيرهما، موضع جدل لم تحسم بعد.
فما تصرفه على جيوشها سنويا تعادل مصروفات روسيا والصين وأوروبا واليابان معا، وتقدر ما بين 750 إلى 850 مليار دولار، أي أننا لا زلنا أمام إمبراطورية دون منافسة، رغم ما يحصل من الطعن في هيمنتها وما منيت بها من الخسائر، لكن كم ستطول هذه المرحلة، ومتى ستظهر المنافسة الحقيقية؟ فهو سؤال مرتبط بالبعد السياسي الداخلي لأمريكا، ومدى نجاح اقتصاد الأقطاب المحتملة، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن المنافسات الظاهرية، أغلبها من الجانب الصيني، والتي تملأ أسواق البضائع الأمريكية بالاستخدامات اليومية أو الحاجيات الأولية الرخيصة، بل عن منافسات اقتصادية استراتيجية واسعة وعميقة التأثير على العالم.
ليست هناك تحالفات، بل مصالح:
فطوال العقود الماضية كما الأن، تتجه الأنظار إلى الخسارات التي تمنى بها الشعوب والقوى الحليفة لأمريكا، ومن النادر ما تم البحث عن دور الإمبراطوريات على تطوير الشعوب أو القوى التي تسلقت النجاح، وتطورت بمساعدة المركز، وفي التاريخ أمثلة عديدة على ظهور دول ضمن الإمبراطوريات، ومنها الدول تحت رحمة الإمبراطورية الرومانية أو الإسلامية، أو غيرها، وفي مثالنا نستطيع أن نتحدث عن العديد من الدول التي أصبحت اليوم من بين الدول المتطورة في العالم إلى جانب الفاشلة، وبشكل عام البيئة السياسية والثقافة العامة؛ لها الدور الكبير في النجاح أو الفشل، فما تعانيه أفغانستان على سبيل المثال، ليس فقط أن الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي فشلا فيها، بل هي كشعب ودولة خسرت ثقافيا واجتماعيا، واقتصاديا، وخسارة الدولتين الكبريين لا تقارن بخسارتها كدولة وأمة.
لهذا فالإشكالية ليس في عدم الثقة بالتحالف مع أمريكا، وغيرها من الدول، بل بما تملكه منظمات الشعب المتحالف من المفاهيم والمنهجيات، والثقافة المهيمنة، وهل لها إمكانيات الاستفادة من الوجود الحضاري والحفاظ على مصالحها مقارنة بأرباح الأخر، وكيف يمكن الاستفادة من تطورها، ونوعية العلاقات، والتي من الحكمة العمل على الأخذ قدر ما يمكن مقابل ما تخسره.
أمام كوردستان مستقبل ناجح فيما لو عرفت كيف تستغلها:
وجزأي كردستان، الجنوبية والشرقية، ورغم تبعيتهما، إلا أن الوجود الأمريكي له إسقاطاته على علاقاتهما الإقليمية والدولية، وعلى الأرجح سترسخ من حضورها فيهما في القادم من الزمن؛ بعد خسارتها في أفغانستان، وسحب قواتها، ومثلها من العراق المركز والتعامل معها من منطق حمايتها إلى وجود قواتها كمستشارين، وهذه ستكون لها تداعياتها المستقبلية على واقع الجزأين الأخرين في شرق وشمال كوردستان.
وعليه تتوجب على القوى السياسية الكوردية التعامل مع الواقع الجديد، بأساليب عصرية، وعدم التسول وانتظار العطاء، بل الأخذ، ومحاولة دمج المصالح الذاتية مع مصالحها قدر الإمكان، مع عدم نسيان احتمالية تغيير معادلة العلاقات هذه في أية لحظة.
وفي حال فشلنا، مثلما فشلت أفغانستان والعراق، ستظهر الانتقادات والدراسات حول عدم الثقة بأمريكا، وستعاد الديباجة المشروخة، لا صديق للكورد، وغيرها من المصطلحات النابعة من ثقافة الأنظمة الشمولية التي روجتها للحفاظ على السلطة، وعلى الأغلب سيلحقها النحيب على الحظ، والعتب على الصديق غير الوفي، متناسين أنه في السياسية لا أصدقاء، بل هناك مصالح، ولا قيم ومبادئ، بل هناك استراتيجيات وتكتيكات تتغير بسهولة.
أمريكا بقوتها الاقتصادية والعسكرية موجودة اليوم على أرض كوردستان، ولنحاول أن نقنعهم على أن تضيف عليهما دعمها الدبلوماسي والسياسي، ولن يتم ذلك ما لم نتمكن من خلق قوة متماسكة يوثقون بها، والثقة تأتي ليس بقوتها العسكرية، ولا لكونها أداة تخدم، وقضت على داعش، بل بما يؤمل منها تكوين مجتمع ديمقراطي وسلطة سياسية مماثلة، ستحافظ على مصالحها، وستكون داعمة، وتتأكد أنها مستقبلا لن تصطدم مع الاقتتال الأخوي كالتي حدثت معها في أفغانستان وفيتنام، بل بما حصل عليه من كوريا الجنوبية وغيرها من دول الشرق الأسيوي.
لربما الأطراف الكوردية، لا تدرك أن البعثات الأمريكية تدرس كل التفاصيل، ومقاييسها ليست مقاييسنا، وأن أساليبهم السياسية ليست فيها مواجهة مباشرة مع القوة المتحالفة، لكن مواقفها المستقبلية تبنى على ما استنتجتها بعثاتها، ومستشاريها، وعليه فخلافاتنا، وعدم التوافق ترسخ من احتماليات الوقوع في مستنقع المعارك الداخلية، وتعرض مصالحها إلى الخطر، وبما أنها تملك المراكز الإستراتيجية المتطورة، تدرس القادم بدقة، فهي تضع من الخطط ما لا نتوقعه، ومن بينها كيفية التعامل مع القوى الإقليمية، كتركيا والنظام الذي قد يخلف الأسد، والمعارضة العربية التي قد تحل مكان التكفيرية الحالية، كخطط بديلة من تعاملها مع القوى الكوردية.
لنعمل، لئلا نضيع في غياهب القرن القادم:
الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية، دخلها الوطني تتجاوز 22 تريليون دولار، ومع شركاتها تتجاوز 100 تريليون دولار، لن تتأثر إذا خسرت جغرافية كوردستان عن طريق القوى الكوردية، لأنها إذا أرادت ستحصل عليها عن طريق القوى المحتلة لكوردستان، ولكنها اليوم ترى أن مصالحها، ومصالح القوى المؤيدة لها تستند على دعمها للقوى الكوردية، وعلينا ألا نخسرها. وأول دواعي خسارتنا تأتي من الصراع الداخلي. ولا يهمها من البادئ، ومن المخطئ، وليعلم الجميع أن خروج أمريكا من المنطقة تعني ضياع الكل، وليس فقط طرف دون أخر، فبتخليها عنا كقوى مسيطرة على كوردستان لن تسمح لنا بإستراتيجية بديلة، ستسبقنا بالتعامل مع أية قوة إقليمية محتملة التعامل معها، بل في الواقع تلك الخطط موجودة أصلا.
ومن هذا المنطلق ننقد إداراتنا، والقوى الحزبية التي تم فرضهم بدون إرادة المجتمع، ولأسباب معينة، قد تزول يوما ما تلك الأسباب، ويحل مكانهم قوى أخرى. لذلك نطلب من جميع الأطراف عدم اجترار تجارب الماضي الفاشل، بإيجاد البديل عن الأساليب الكلاسيكية، في التعامل مع القوى المهيمنة، وعلى النخبة في حراكنا البحث عن منهجية عصرية، تلائم الظروف والعلاقات السياسية الدولية، وإلا فنحن سائرون إلى فشل كارثي سيضاف إلى تجاربنا الماضية.
ومن المهم الثقة بالذات، وعدم البحث عن السيد للعمل تحت أمرته، من منطق الموالي، فهي من أغرب مخلفات الثقافة التي رسختها القوى المغتصبة لكوردستان في أدمغتنا طوال القرون الماضية، ولم نحاول يوما بشكل جدي التحرر منه، وبالتالي لا تزال الإيمان بالذات مهزوز، وخير مثال علاقات جميع القوى والأحزاب الكوردية والكوردستانية مع الأطراف والدول المحتلة لكوردستان، وصراعهم على من يحتل مركز الصدارة في خدمة الأخرين.
الولايات المتحدة الأمريكية
14/8/2021م