إبراهيم اليوسف
رغم أني أغلب مخيلتي وذاكرتي التفاؤليتين، عادة، على كل تفاصيل الواقع التي تحيل إلى الحزن والمتاعب، وكأن حياتنا التي فتحنا عليها أعيننا لم تكن إلا مجرد ملحمة آلام- فحسب- إلا إنني أتمالك ذاتي أمام أي بكاء أو حزن، وكثيراً ما أتمالك ذاتي أمام منظر صفع أب أو أم لطفلهما، لأراني ولي أمره، أكثر منهما، وقس على ذلك أمام كل بكاء، إذ أكاد أنهار وأنا أسمع بكاء الكبار، وأتحاشاه، ولعل بكاء النساء يشعل دينانيته في عروقي ودمي وكل مسام من جسدي وأنا أسمعه، حتى وإن كان في فيلم، أو مسلسل، أو مسرحية، أو عبر شاشة الرائي أو شاشات الحياة ابتي باتت تفقد بشاشاتها!
يعرف من حولي الذين التقطوا فيروس كورونا أنني كنت أتواصل معهم على امتداد اليوم، لأكاد أعدهم شاغلي الوحيد، إلى تلك الدرجة التي كدت أقول فيها” لربما إنني بت أتعبهم بمحاولات اطمئناني عليهم” واحداً واحداً، عبر قارات العمارة الكونية، لاسيما وأننا بتنا مذررين، على الشتات، لا أفتأ أرسل لكثيرين منهم خلاصة مايصلني من مجموعة أطباء أعزاء، منهم من كان يؤازرني ويتواصل مع بعض الذين التقطوا الفيروس ومن بينهم: كبرى شقيقاتي وصغراهن وزوجة أحد أبنائي وبعض أبناء العمومة أو الخؤولة، ولافرق بينهم جميعاً، وبين أي صديق، ولأقلها أكثر: حتى بينهم وبين أحد من عد نفسه خصم لي، واضطررت يوماً ما أن أرد عليه في حالة غضب، بينما إنه ليس من أخلاقي في يوم ما أن أبدأ باللجوء إلى غير التي تربيتها في مدرسة والدي مع أحد، إلا عندما يوغل سكين أحدهم في ظهري، أو إزاء من ينصب ذاته عدواً، نتيجة هذا السبب أو ذاك، لاسيما بعض أعداء الرأي الذي لا أساوم عليه، مع إني لاأساوم على إنسانية العلاقة حتى مع خصوم الرأي الذين تظل خصومتهم غير مؤسسة على آلة العنف والاستقواء، ويظلون في حدود هذه الدائرة، من دون أن يحرضوا على المختلفين معهم، أو يشاركوا المستبد والقاتل في التطوع كمنظرين له!
ما أقوله ليس استطراداً، بل هو نتيجة شرح لواقع الحال، وأنا أتلقى للتو نبأ رحيل ابن عم لي هو” أحمد سيد إسماعيل شيخ سعيد” أحد أوائل الذين عنوا بنا في أوربا إلى جانب كوكبة من الأصدقاء والأهل ولطالما كرسوا ذاتهم في خدمتنا، كما فعلوا مع سوانا، وحكمي على أحمد أبي فرهاد ليس من باب المنفعية التي قد تكون أسطون العلاقة العابرة، بل إن الرجل الذي كان يعبر حدود قريته” بن أردكا” و يطرق أبوابنا في قامشلي، في منتصف الليالي، ناسياً كل شيء كي يطمئن على عم له، أو عمة أو ابن عم، بما يشبه الفعل الأسطوري غير مبال بما بيننا من حدود، وهو لما يزل في أول فتوته التي يكاد لم يغادرها وهو لم يقارب الخامسة والأربعين من عمره بعد، لنقرأ في عينيه ووجهه وسيمائه كمال خصال الحنان والأخلاق والارتباط بالأهلين، وقد لمست بنفسي ذلك أمس وأنا أزوره في المشفى البلجيكي لأرى أن العشرات من أصدقاء دراسته وجيرانه وأصدقاء أولاده يعسكرون هناك، ويناوبون البقاء في المكان، ومنذ أن دخل غرفة العناية المشدد في السابع من شهر حزيران وحتى صباح اليوم، إلى الدرجة التي رحت أواسيهم بنفسي، ومنهم من غير الكرد. من قوميات أخرى، لدرجة أن بعض هؤلاء يكاد يقيم مع بعض أولاده اليافعين!
ثمة الكثير الذي يمكن أن أقوله عن أحمد- كابن عم- بعد أن قلت الكثير في أصدقاء ومعارف لي ضممت أسماءهم في بعض منشوراتي وبعض كتبي الأربعة التي انتهيت منها وطبعت بعضها فيما سمي ب” أدب الجائحة”، ولقد استغربت من موقف وفائه مع بعض أصدقائه هؤلاء، إذ اتفق معهم أن” يطعموا” بإبرة موحدة لمواجهة فيروس كوفيد 19 اللعين، ولما استطاع هؤلاء الأصدقاء “الحصول” على ذلك اللقاح وكان من نصيبه لقاح آخر، فإنه رفض” أخذه” في انتظار توافر اللقاح الآخر. بينما رفيقة دربه. أم أولاده قبلت هذا اللقاح وكانت أقل معاناة، في مواجهة متاعب الفيروس الذي التقطته الأسرة عبر أحد أطفالها، بعد ثلاثة أيام من موعد لقاح الأسرة، ليكابد، ويواجه المرض، وتظهر عليه الأعراض في اليوم الأياري الأخير، ويتفاقم تدريجياً.
لم أقل شيئاً بعد، في شرح مقدمة المقال التي حضرتني، وأنا أصوغها في حضرة ابن عم كنت قبل ساعات من رحيله في حضرته وهو مسجى على سريره، وقد سمح لنا المشفى بعيادته، بعد مرات عدة من يأسهم، ومن ثم تفاؤلهم، بحياة جديدة له، ولا أخفي أن مواجهتي له كانت من اللحظات الأكثر صعوبة في حياتي وأنا أرى دمعته تسيل على إحدى عينيه، وهو يمتص أوكسجينه عبر جهاز التنفس الذي كتبت عنه كثيراً، من قبل!