حسين جلبي
أعادت التفجيرات الدموية الأخيرة التي شهدتها مدينة عفرين والقصف الصاروخي الذي تعرضت له، المدينة إلى صدارة الأحداث لبعض الوقت قبل أن تصبح طي النسيان ثانيةً، مثلها في ذلك مثل أية مدينة سورية أُخرى، تذكر فقط بمناسبة وقوع اعتداء ما عليها، وذلك بعد أن تحولت سوريا إلى صندوق بريد دموي، تتبادل عبره مختلف القوى رسائلها المكتوبة بدماء السوريين، دون أن يفهم المعنيون بالأمر، مَن يراسل مَن، والهدف مما يجري، ومتى ينتهي مثل هذا العبث بمصيرهم.
تحتل منطقة عفرين مكانة خاصة لدى كُرد سوريا، فهي المدينة الأكثر تعبيراً عن هويتهم القومية، نظراً للنسبة الأعلى من الكُرد فيها، مقارنة بالمنطقتين الأُخرتين كوباني/عين العرب ومنطقة الجزيرة/محافظة الحسكة، وكانت تخلو حتى ستينات القرن الماضي من غير الكُرد، إذ بدأت الحكومة السورية منذ ذلك الوقت، بإرسال موظفين حكوميين وبناء قرى عربية فيها، ضمن إطار مشروع تغيير بنية المناطق الحدودية مع تركيا، متذرعةً بذلك بقانون الإصلاح الزراعي،
ثم تواصلت التغييرات على التركيبة السكانية في المنطقة، وكان أكبرها بعد بداية الثورة السورية، إذ تضاعف عدد سكان عفرين بعد أن بدأت عسكرة الأوضاع في سوريا، والتي أدت إلى نزوح المواطنين السوريين من المناطق التي تشهد معارك بين نظام الأسد والمعارضة، إلى مناطق أكثر هدوءاً مثل عفرين، التي كانت استقراراً نسبياً، لكن أكبر التغييرات على بنية منطقة عفرين الديمغرافية، كانت بعد العملية العسكرية التركية “عملية غصن الزيتون”، إذ انخفضت نسبة الكُرد فيها إلى أقل من النصف حسب تقديرات غير رسمية، وكانت بداية تلك التغييرات، إخراج إدارة حزب العمال الكُردستاني الذي كان يدير المنطقة؛ مئات الآلاف من الكُرد من المدينة ليلة انسحابه منها، قبل دخول الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية الموالية له إليها في صباح اليوم التالي.
تعتبر عفرين جزءاً من إشكالية الهوية الكُردية في سوريا والأكثر تعبيراً عن تلك الإشكالية؛ التي تعمَّقت مع ما تعرضت له المدينة من تحولات دراماتيكية. فالكُرد السوريون ينظرون إلى أنفسهم كقومية مكتملة الأركان، من حقها الحصول على حقوقها كاملةً في البلاد، لكن ما تم تقديمه لهم طوال الوقت كان هوية “عربي سوري” على خلاف الواقع، كما تم حرمان قسم كبير منهم حتى من تلك الهوية، هذا في الوقت الذي استغلت فيه أنظمة الحكم الثروات الاستراتيجية في مناطقهم، ولم تقم باستخدام جزء منها لتطوير بنيتها التحتية وحرمتهم من الاستفادة منها، الأمر الذي عزز الخطاب الكُردي حول المظلومية التاريخية وكُردستان الملحقة بالدولة السورية، بعد تأسيسها بموجب اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن من الزمان، والتي يصعب الوصول إلى حلول لها مع أنظمة حكم لا تعترف بخصوصيتهم. وعندما بدأت الثورة على نظام الأسد، وانتقلت السيطرة على المناطق الكُردية إلى حزب العمال الكُردستاني التركي بتفاهم مع النظام، بقيت تلك الإشكالية قائمة، من خلال شعور كُردي بأن الأمر لا يتعدى “استبدال اضطهاد قومي بآخر حزبي”، وبأن بعض التساهل معهم إنما هو مسألة تكتيكات مؤقتة، لا تخرج عن حسابات نظام الأسد في مواجهة الثورة ومحاصرتها، وستنتهي بمجرد خروج النظام من أزمته الوجودية.
عندما بدأت تركيا عملية عسكرية في منطقة عفرين، لم يتعامل نظام الأسد مع المنطقة كأراضي سورية، ولم يقاتل من أجلها مثلما يفترض بنظام فِعْله تجاه أرض وطنية، ولم يتعدى ما قام به سوى تسجيل موقف؛ عبر بعض الشغب الإعلامي وارسال العشرات من عناصر المليشيا بأسلحتهم الخفيفة، التي كان يستحيل عليها وقف زحف الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية الموالية له، بحيث بدا الأمر وكأنه يتنازل عنها للتخلص من مزيد من الأخطار التي تحدق به. وعندما سقطت المدينة بأيدي “فصائل غصن الزيتون”، كان أول ما قامت به هذه هو تحطيم تمثال “كاوا”، الرمز الكُرد الأبرز في المدينة وغيرت تسمية الساحة التي كان قائماً فيها، وبدأت عملية نهب منظم عرضت صورها وكالات الأنباء العالمية، ثم تقاسمتها وتعاملت معها وكأنها مستعمرة، إذ توزعت الفصائل العسكرية على كامل مساحتها واعتبر كل واحد منها ما تحت يديه إقطاعية خاصة، واستمرت في عمليات النهب والتغيير الديمغرافي عبر التضييق على المواطنين الكُرد لدفعهم إلى الهجرة، ومنع من غادر منهم من العودة، وكان ما ساعد في ذلك، تزامن سقوط مدينة عفرين بأيدي الجيش التركي وحلفائه؛ مع تسليم منطقة الغوطة الشرقية إلى نظام الأسد، على أساس اتفاق مصالحة رعته روسيا مع فصائل المعارضة، قضى بخروج مسلحيها مع ذويهم ومن يرغب من سكان الغوطة إلى الشمال السوري، حيث جرى توطين معظمهم في منطقة عفرين، في بيوت سكانها الكُرد التي تم تهجيرهم منها، بحيث بات حديث الشارع الكُردي يدور حول المقارنة بين عدد من الاحتلالات: نظام الأسد، حزب العمال الكُردستاني ومن ثم تركيا وفصائل المعارضة السورية الموالية لها.
إذا كان الكُرد وبسبب القمع المزدوج الواقع عليهم من قبل أنظمة الحكم في سوريا، مرةً باعتبارهم سوريين يقع عليهم ما يقع على السوريين جميعاً من حيف، ومرةً كُرداً يتعرضون للتمييز العرقي، شعروا بأنفسهم غرباء في بلادهم، وسعوا بسبب ذلك إلى تحقيق حل عادل لقضيتهم بأية طريقة كانت، وقد وضعوا لأنفسهم التحرر من الظلم الواقع عليهم هدفاً، فإن التعاطي الشعبي المختلف معهم، جعلهم يشعرون بأنهم جزء من النسيج الوطني السوري، ولعل استقبال أهل عفرين للنازحين من المناطق السورية التي كانت تشهد قتالاً؛ خير تعبير عن عدم وجود مشكلة بين السوريين واندماج الكُرد في محيطهم السوري، إلا أن وصول المهجرين قسراً من مناطق الغوطة وغيرها إلى عفرين، ضمن ترتيبات إقليمية ودولية مفروضة على السوريين، خلال ظروف تهجير سكان المدنية منها، بطريقة أحدثت استبدالاً قسرياً للسكان مترافقاً، بصورة جعلت أهل عفرين أقلية غريبة في مدينتهم، عزز شعور الكُرد بسوريتهم وبوقوعهم تحت احتلال، وبأن إعادة المدينة إلى وضعها السابق، سيكون خطوةً على طريق انهاء محنتها.
—————
المصدر: السوري اليوم