إبراهيم محمود
اسمهُ الحريق، وليس النار، ويا لصلة الوصل النافرة الهادرة، رغم أن النار تفيد في بعض منها، وربما أكثر، وتؤرّخ لتحول إنساني حضارياً. سوى أن عمل الحريق مغاير، إذ يكون النارَ وقد عملت هذه بمبدأ الخراب والترويع، طبيعية أو مصطنعة. وليس من شعب، من إنسان، إلا وفي ذاكرته ما ليس يُحمَد عن/في حريق عميق الأثر مديده، وبدرجات في نفسه. ولو سألت أهلنا الإيزيين عن العدو الأول لهم تاريخياً، وإلى هذه اللحظة لكان الحريق في الواجهة: حريق معتمَد من جهة الأعداء وما أكثرهم، وحريق مجهول النسَب، وما أفظعه، وحريق كامبا شاريا في دهوك اليوم: الجمعة ” 4-6-2021 ” يصنَّف ” سوبر حريق ” وهو يأتي ظهراً على قرابة ” 400 ” خيمة” ليصل بصورة ما بين مأساتهم السالفة واستمرارها في الحريق الصاعق هذا.
ليس العدد ” 400 ” بقليل وفي وضح النهار المتفحم، احتساباً للتوقيت ومساحة الحريق وما وجِد داخل كل خيمة: أرواحاً ومن متاع خفيف مؤقت في انتظار مقضّ مروّع ومقلق مضاعفاً ليوم العودة إلى حيث لم ينطفىء رعب أو إرهاب داعش ” آب 2014 بعد بعد في واعية كل إنسان- إنسان، كل كردي- إنسان، كل إيزيدي يلاحَق في إنسانيته الخاصة. لم ينطفىء إلى اللحظة ذلك الحريق الفرماني الميتافرمان، الميتاعنف، الميتا رعب، والسوبر إرهاب على مرأى من سمع العالم وبصره، وعن قرب طبعاً، ليكون الحريق الفريد من نوعه وجنسه وحمولة ضحاياه، ليكون هذا الحريق تذكيراً مخيفاً لما كان.
كيف يمكن لحريق كهذا أن يخرج الناظرَ، والمعايش الإيزيدي وهو رهين عذابات ما كان وما هو كائن، متفحصاً بنية حريق كهذا، حيث الخيمة كمفهوم، كشكل، كتركيب، كتعبير، مطروحة خارج السكنى، مفهوم مؤقت للإقامة، مؤقت للتصريف، مؤقت للتعامل معه، فليس في لسانه أي وعدٌ بسلامة الجسد المقيم، وليس في عهدته ما يشي بالراحة المنتظرة، وليس في لغته النارية الحارقة، المارقة بعنفها، المميتة في درجة معينة، إن أخليَ لها المكان، وإن مُدَّ لها زمان معين، ما يوقّع به على صك اعتبار لأي كان، في أي كان من نوع الخيمة، ليس في ذاكرة الحرائق إلا تناسخ أنساب الكوارث التي تسمّي الطبيعة وساكنيها، ليس في ذاكرته التي لا يحاط بها، إلا ذلك النهم والرهيب في الإتيان على ما هو جاذب له، وليس من جاذب له إلا وفيه عتبة للدخول به إلى فجيعة، ومن باب يطَرق سريعاً، وفي صمت، إيذاناً لحِداد قد يطول ويطول.
لأهلنا الإيزيديين، للإيزيديين وهم أهلنا، كردنا الخاصون التليدون المساقون إلى الحريق، المطارَدون بالحريق تلو الحريق منذ عهود وعهود، منذ جهات وجهات، منذ أمكنة وأزمنة وثقافات، منذ معتقدات وأعراف قابلة للحريق طي الحريق، وما حريق ” شاريا ” اليوم، إلا الرعب المتجدد وفي الهواء الطلق، رغم تسممه وتسميمه، وفي النظر الشفاف، رغم صداميته، وفي المتابعات الجهوية المسماة، رغم زيف المحمول شعاراً إنسانياً في ألقابها وشعاراتها، ومراميها. لحريق الإيزيدي: الأهل، الإيزيدي المأخوذ إكراهاً بحريق يقبِل عليه كرهاً على غير ميعاد، رغم أنه مضروب في الساعة ومكانها في تواقيت معتبرة، لهذا الحريق نسَب إنساني/ لا إنساني شديد الخصوصية/ العمومية، ضرب من التخويف ليس بالمجان، إنما تبعاً لرهانات محلية، إقليمية، عالمية، ليعيش الكردي عذابات ناره أينما قادته رجلاه، ولمسته يداه، وأرتْه عيناه. وحده الإيزيدي أكثر من أي كان في أي مكان، على بيّنة برهوانيات الحريق الذي لا ينفك يطارده من نوم إلى آخر، وليس من نوم اعتباري غالباً إلا بوصفه كابوساً، ومن صحو إلى آخر، وليس من صحو مسمَّى إلا باعتباره إطلالة على كارثة فرمانية، والفرمان أجناس وأنواع.
الإيزيدي حفيد حفيد حفيد الإيزيدي وحده أعلم من غيره، بمآسيه التي يكون ضحيتها رجلاً، امرأة، صغيراً، كبيراً، ذكراً وأنثى، دونما تفريق، وإن كان من فرْق، فلزيادة جرعة الإيلام لجمع الإيزيديين، لأن جسده الذي يشكل كامل ذاكرته العيانية إجمالاً هو من يلوّح لسواه، وللآخرين على أنه مطروح لوجع استثنائي، هو من سلالة الحريق الصفيق، لضحايا لا يكفون عن الصراخ المكتوم، كما لو أنهم في جمعهم الغفير والمتشظي قهراً، داخل خيمة تتجدد، والخيمة جاذبة الحريق بأكثر من معنى، ليكون الإيزيدي هذا، جد جد جد جد الإيزيدي وحده أبصر من سواه على وقْع دلالات الحريق الذي يتهدده في ليله ونهاره، في حله وترحاله، حيث حريقه البرّي والأهلي يعلّمه غده المطوَّح به، على مقياس أمسه الملوَّح به ترجمان حريق، وألوان حريق، وهو المعرَّى بألسنته اللاذعة. فهل من انعطافة تكف فيها الخيمة، بأكثر من معنى، لأن يتردد اسمها، دون أن يكون النار توأمة لها، وحينها يخرج الإيزيدي من جسده المحروق إلى روحه المضيئة كاسمها، فهل من أمس ٍ يطمئن غده بذلك؟
دهوك