حسين جلبي
يواجه حزب العمال الكُردستاني مشكلة حقيقية خلال الأيام الأخيرة من حيث لم يحتسب، فبعد عقد كامل من الاستفراد بالساحة الكُردية السورية؛ وصولاً إلى أوروبا حيث جالية كُردية كبيرة، من خلال استخدام السلاح والقمع المنفلت من العقال، الذي جعل صوته الوحيد المرتفع فيها، أخذ جدار الخوف الذي بناه بالتداعي فجأةً، بعد بدء مجموعة من الناشطين الكُرد برفع أصواتهم وفضح سياسات الحزب وإدانة نتائجها، فيما يشبه ثورة آخذة بالتوسع، يقودها أُناس غاضبون يشبهون البوعزيزي التونسي في الانتصار لكرامته، إلا أنهم ليسوا ممن يشعل النار في نفسه ويترك الساحة للحزب لجني ثمارها، وليست لكثير منهم قضية شخصية مع الحزب، كما أنهم لا ينتمون إلى الأحزاب الكُردية التي نجح الحزب في شلَّها وتفريخها وإفراغها من محتواها، ولا إلى المثقفين الكُرد ممن امتهن الكتابة؛ واختار أغلبهم “طريق السلامة” وآثر تجنب الاصطدام مع حزب الـPKK، كُلٌ لأسبابه الشخصية الخاصة، والذين لا يزالون يلعبون دور الصامت الأكبر أو مناصر الحزب، من خلال صمته أو كلامه.
في الواقع، ورغم أن قمع حزب العمال الكُردستاني أصاب المجتمع الكُردي بالشلل واستنزفته حروبه، فقد كانت هناك حركة غليان تحت السطح، تفجرت أصواتاً كُردية قليلة تحتج على الأوضاع التي تتدهور باستمرار، إلا أنها كانت محدودة، ويجري محاربتها وعزلها وتحجيمها حتى من ضحايا الحزب أحياناً، لكن الأصوات بدأت تزداد وتتصاعد بعد الحروب العبثية التي دخلها الحزب، وخاصةً تلك التي خاضها تحت راية التحالف الدولي المناهض لداعش، وما تسبب به من خسائر بشرية فادحة، لم تنعكس إيجابياً على الوضع الكُردي في سوريا، وتزامنت مع هزائم مدوية لحقت بالحزب بدءاً من عفرين، وأدت إلى مزيد من تضعضع الوضع الكُردي، حيث تم تهجير الكُرد من مناطقهم قسراً ببنادق الحزب أحياناً، وإرغامهم على الإقامة في معسكرات قسرية مغلقة قام بتجهيزها، واتخذها خزاناً بشرياً ومالياً بديلاً عما فقده، إلى جانب تأمين حاضنة بديلة أُخرى، هي معقلا داعش السابقان في الرقة ودير الزور، ساهمت جميعها في دوران عجلة شعاراته الديماغوجية حتى الآن.
كانت قطرة الماء التي أفاضت السد، وجعلت جداره يتشقق ويبدأ بالتداعي، هو إقدام مجلس منبج العسكري التابعة لقوات سوريا الديمقراطية، التابعة بدورها لحزب الـPKK؛ على اختطاف عائلة موظف مستقيل في إدارة الحزب في منبج؛ بأجيالها الثلاث، الأطفال الثلاث الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة والسادسة وأمهم؛ وهم أبناء الموظف السابق وزوجته، أشقاؤه الشبان الثلاثة ووالداه المسنان، واتخاذهم جميعاً رهائنَ، إلى أن يسلم الموظف المستقيل نفسه، بعد تواريه عن الأنظار وعدم تمكن المجلس من النيل منه، وقد كان آخر المختطفين هم والدته؛ التي وجهت مناشدةً للتضامن في اليوم الخمسين لاحتجاز عائلتها، ونداءً لقائد قوات “قسد” مظلوم عبدي لتحريرهم، فكان الرد على ندائها هو اختطافها وإلحاقها بالعائلة في المكان المجهول الذي تُحتجز فيه، حيث أصبحوا جميعاً رهائنَ منذ حوالي ثلاثة أشهر، ويرفض الحزب تركهم وشأنهم إذا لم يقم الموظف السابق بتسليم نفسه بدلاً منهم، وكان الرد في الجهة الأُخرى، الكُردية، هو تضامن واسع مع المدنيين الرهائن، بدأ يكبر مثل كُرة الثلج، حتى أصبح مسألة كرامة كُردية.
الخطأ القاتل الذي استمر حزب العمال الكُردستاني بارتكابه، والذي زاد من النقمة عليه، هو التعامل بفوقية مع الكُرد، محاولاً كعادته تسويق نفسه الحزب المنتصر الذي ينبغي عليهم احترام ما يسميها مكتسباته؛ رغم الكوارث التي تسبب بها لهم، وبالتالي متابعة سلوكه القمعي وكأن حروبه ما زالت قائمة، كون أصوات المدافع تغطي عادةً على أصوات ضحايا القمع وتمنع سماعها، وترغم الناس على السكوت على التجاوزات على حقوقهم، حيث كل شيء في خدمة معركة تبدو مصيرية تخاض باسمهم، بصرف النظر عن أسبابها وموقفهم منها. ضمن هذا السياق، جاء سلوك الحزب مع العائلة الكُردية في منبج، وهو مطمئن إلى نتيجة عمل ارتكب مثله مراراً، إلا أنه لم يكن يعلم بأنه إنما يشعل هذه المرة شرارةً في رصيده الهش، وذلك في وقتٍ خرج فيه الناس من حالة الحرب والشد العصبي، وبدؤوا يعودون إلى الحالة الطبيعية ويعملون على استعادة حرياتهم، وطرح الأسئلة عن ظروف المعارك التي جرت، عن أسبابها ونتائجها، والمسؤول عن الخسائر التي ألمت بهم.
استمر حزب العمال الكُردستاني في احتجاز العائلة الكُردية رهينةً، وبدأت الأصوات المناهضة له بالارتفاع وتخلى كثيرون عن الصمت، فلجأ الحزب إلى سلاحه الآخر الذي لم يتوقف عن استخدامه، وهو توجيه كوادره وأنصاره شتائم وتهديدات بالقتل والتقطيع وتدمير الممتلكات للناشطين الكُرد خاصةً في ألمانيا، واستدعاء أهاليهم في مناطق نفوذه وتهديدهم إذا لم يصمت أقرباؤهم، حتى أن أحدهم دعا علناً إلى العودة إلى سلوكيات تسعينات القرن الماضي، عندما كان الحزب يقطع آذان وأنوف المعارضين لنهجه، وهو الأسلوب الذي كان ينجح سابقاً، إلا هذه الخطوة جاءت بمزيد من النتائج العكسية عليه هذه المرة، إذ وضع النشطاء تهديدات كوادر الحزب برسم السلطات الألمانية، مع أسماء أصحابها وأصواتهم ومقاطعهم المصورة، وستفتح هذه الخطوة باباً جديداً على الحزب، في المقبل من الأيام كما هو متوقع.
إن ما يحدث حالياً من حراك كُردي سوري مناهض لحزب العمال الكُردستاني، ويتجلى بشكل خاص باستخدام سلاح البث المباشر على الفيسبوك؛ والذي يحظى باهتمام وتفاعل كبيرين وبشكل غير مسبوق، وذلك من قبل مجموعة كبيرة من الناشطين الكُرد، الذين كسروا حاجز الخوف ولا يعرفون حدوداً لانتقاداتهم ويقولون بأنهم يعرفون هدفهم جيداً، ويسمون نشاطهم ثورة ويصممون على المضي فيها حتى النهاية، هو من تداعيات انتهاء معركة طويلة، كانت عبارة عن دوامة دموية أدخل حزب العمال الكُردستاني الكُرد فيها، وعمل طوال الوقت على استنزافهم وإبقائهم داخلها، إلا أنهم بدؤوا بكسر طوقها كما يبدو، ومحاسبة الحزب على كل ما فعله، والواضح من توسع دائرة الاحتجاج، هو أن اختلاق أزمات ومعارك جانبية جديدة لن ينفع الحزب هذه المرة، للاستمرار في إشغال الناس وتأجيل المحاسبة وطي صفحتها، وتشتيتهم ومنعهم من استعادة وعيهم.
—————
المصدر: موقع تلفزيون سوريا