نعم.. أنا كوردي

د. ولات ح محمد
    تجري بريطانيا اليوم الأحد 21/3/2021 إحصاء سكانياً عاماً تستكشف من خلاله (إضافة إلى الأعداد) أصول الناس القومية والعرقية وانتماءاتهم الدينية. وبهذه المناسبة وجه السياسي الكوردي والنائب السابق في البرلمان التركي عثمان بايدمير رسالة إلى الجالية الكوردية في بريطانيا يحثهم فيها على استغلال الفرصة وتسجيل أنفسهم بوصفهم كورداً. وقال بايدمير في رسالته المصورة عبر الفيديو “هناك قرابة نصف مليون كوردي يقيمون في بريطانيا، ولكن مع الأسف غالبيتهم مسجلون على أنهم أتراك أو عرب أو فرس. هذه القوميات مجاورة للكورد، ونكن لها الاحترام، ولكن يجب على الكورد الحفاظ على هويتهم أينما كانوا، وأن يسجلوا أصلهم بصراحة. (…) يجب ألا يتخلى الكورد المقيمون في بريطانيا عن هويتهم الكوردية الكوردستانية، في الوقت الذي يمتلكون فيه فرصة كبيرة لتوثيق هذه الهوية رسمياً في بريطانيا”.
    وبغض النظر عن هدف الدولة من هكذا إجراء فإنها بالنسبة إلى الكورد في بريطانيا فرصة أن يسجلوا أنفسهم لأول مرة بوصفهم كوردأ بعد كانوا حتى الآن يُسجلون (دون اختيارهم) في دولهم أو في دول اللجوء على أنهم عرب أو أتراك أو فرس أو أفغان أو غير ذلك من الأقوام التي يعيشون بجوارهم أو بين ظهرانيهم. الكورد عموماً كغيرهم من الأقوام يفتخرون بأصلهم ولا ينكرونه أو يخفونه، ولكن ثمة فئة قليلة منهم تفضل للأسف أن تنتمي إلى أحد أقوام المنطقة وليس إلى أصلها الكوردي. والسؤال الذي سيفرض نفسه هنا هو: لماذا يخفي أولئك أصلهم الكوردي؟. 
    ليس من طبيعة الإنسان أن يذهب لاختيار “أفضل” الأعراق كي ينتمي إليها، بل الطبيعي أن ينتسب إلى أصله ويفتخر به، فهي مسألة غريزية قبل كل شيء. إذاً، ما الذي يدفع أحدهم إلى أن يدعي (كاذباً) أنه عربي أو فارسي أو تركي مثلاً ولا يعلن (صادقاً) أنه كوردي؟. أي قبائح ارتكبها الكورد تجعل بعضهم يخفون أصلهم خجلين أمام الآخرين؟. هل لأن الأقوام الأخرى لديها دول والكوردي بلا دولة؟. هل هذا سبب كاف كي ينكر الكوردي أصله ويخجل من الانتماء إليه؟. إذا كان الكوردي بلا دولة فعلى الذين حرموه منها أن يخجلوا من جريمتهم وليس هو، بل عليه أن يعلن دائماً كورديته على أسماعهم كي يذكرهم بجريمتهم التي ارتكبوها قبل مائة عام وظلوا (بسبب مصالحهم) مصرين على تثبيت أركانها كل هذه العقود من السنين.
    الكوردي بلا دولة؟ نعم، ولكنها ليست نقيصته التي عليه أن يخجل منها، بل هي نقيصة الآخرين. الكوردي بلا دولة، ولكن قومه لم يرتكبوا جرائم بحق الآخرين تبعث على الخجل والتخفي وتغيير الهوية. خجل الكوردي من انتمائه ثقافة زرعتها في نفسه وذهنه الأنظمة التي تقاسمت جغرافيته وارتكبت بحقه الجرائم بكل أنواعها وحاولت محوه من الوجود، وحينما فشلت أجبرته على إخفاء أصله إذا أرد أن يعيش. إذا كان من قسموا أرض الكوردي وحرموه من دولته لا يخجلون من فعلتهم وانتمائهم، وإذا كان الذين لم يتوقفوا منذ مائة عام عن ارتكاب الجرائم بحقه ومحاولات محوه لا يخجلون من انتمائهم، فلماذا يخجل الكوردي من انتمائه وهو الذي لم يعتد يوماً على أحد ولم يغتصب حق أحد في الحياة؟.
    نعم، أنا كوردي وأفتخر بأصلي، ليس لأن الكورد أكثر أصالة وعراقة وحضارة وتقدماً وعدداً من غيرهم من الأقوام، بل لأن صفحة الكوردي أكثر بياضاً ونصاعة ونزاهة من صفحات الآخرين، ولأن تاريخه بريء من دماء الآخرين ولأنه لم يبادر يوماً إلى الهجوم على الجيران الأقربين أو الأبعدين كي يطردهم من بيوتهم ويستولي على أراضيهم وأملاكهم ويتركهم ينامون في العراء. الكوردي لم يقم باحتلال أراض الآخرين كي يوسع مملكته ولم يحرم أحداً من لغته وثقافاته ودولته. الكوردي لم يُدخل الآخرين في سجونه ولم يقتلع أظافرهم فقط لأنهم تحدثوا أو كتبوا بلغتهم. الكوردي لم يحرم الآخرين من العمل والوظيفة فقط لأنهم ليسوا كورداً. 
    الكوردي بلا دولة؟ نعم، ولكنه لم يدمر التراث العالمي من الآثار والمتاحف ولم يهدم دور العبادة. الكوردي لم يفجر شوارع أوروبا ومطاعمها ومراكزها الثقافية ولم يقتل أبناءها كي يخجل من انتمائه. الكوردي لم ينتج فيروسات كلفت أرواح الملايين وأهدرت المليارات من أموال العالم. الكوردي لم يصنع قنابل نووية ليحرق بها الأرض والبشر ولم يقم بتخصيب اليورانيوم ولم يهدد سلم العالم. ليس الكوردي من فعل كل ذلك، فلماذا عليه أن يخجل من انتمائه وأصله؟ هل عليه أن يفعل كل ذلك كي يكون فخوراً بنفسه؟؟!!. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها…

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…