شاهين أحمد
موجة الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في تونس والتي عرفت بثورات الربيع في المنطقة وصلت إلى سوريا في منتصف آذار 2011 حيث شهدت مختلف المناطق السورية موجة سلمية جريئة وشبه شاملة لحراك شعبي سوري ،رفع فيها المتظاهرون شعارات وطنية سورية طموحة لأول مرة بعد أكثر من نصف قرن من إغتصاب البعث لسوريا . بدأت الجماهير المنتفضة مطاليبها بالحرية والديمقراطية ثم رفعت من سقف شعاراتها حتى وصلت إلى المطالبة بإسقاط النظام ورحيله. كسبت هذه الاحتجاجات السلمية تعاطفاً وتأييداً محلياً وإقليمياً ودولياً كبيراً، وشعر النظام أن موجات التظاهر بدأت تتسع دائرتها وتزداد قوتها وشعبيتها ، وأن حملات الاعتقال فشلت في وقفها أو إضعافها ، فلجأ لقمعها من خلال قطعان الشبيحة ، ومن ثم عمد إلى إطلاق سراح مئات المتطرفين من سجونه ،
وبالتزامن قام رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي بإطلاق سراح مئات الإرهابيين من قيادات تنظيم القاعدة من سجني أبو غريب والتاجي في العراق ، وأرسل النظام مزيجاً من منتسبي الأجهزة الأمنية والعناصر الإسلامية الراديكالية المذكورة إلى صفوف المتظاهرين ، وتغلغل الوافدون في مفاصل الحراك الجماهيري وبعض التنسيقيات الشبابية ، وعمد هؤلاء الدخلاء على الثورة لرفع شعارات طائفية ودينية متطرفة بالتدريج ، وساعدته – ساعد النظام – في ذلك بعض أجنحة الأسلمة السياسية التي دخلت على الخط ، واستغلت الظروف الإستثنائية والمناخات التي وفرها النظام بغرض إضفاء الطابع المذهبي السلبي على الاحتجاجات من خلال إظهارها بلبوس إسلامي راديكالي، وكذلك الخطأ القاتل الذي وقعت فيه الجماعات الإسلامية المحلية الناشئة من البذور التي دفنتها بعض أجنحة الأسلمة المذكورة في أعماق المكون العربي السني السوري ، والتي بدورها وفرت الغطاء الشرعي والسياسي للجماعات الإسلامية الراديكالية المعولمة والوافدة من فروع تنظيم القاعدة للدخول إلى مفاصل الحراك الثوري ،هذا المناخ ساعد الجماعات المتشددة التغلغل في المفاصل الأساسية للحاضنة الثورية السورية ، ثم بدأت بإلتهام الشرائح الثورية الناشئة واحدة تلو أخرى، وتلقت قطعان التطرف الدعم المادي واللوجستي من بعض الجهات الدولية والإقليمية ، ثم بدأت بتنفيذ مسرحيات مثل إطلاق النار على الأجهزة الأمنية لإعطاءها المبرر للرد واستخدام العنف ، وترافق هذا التحول مع موجة انشقاقات في صفوف جيش النظام ، وأعلن عن تشكيل كتائب الجيش الحر ، وبذلك نجح النظام في استدراج الثوار من حالة الثورة السلمية التي هزت أركانه إلى حالة العسكرة والعنف المسلح ، وبدأ الحراك الشعبي السلمي يتراجع زخمه لصالح العنف والعمل المسلح ، وبدأت الفعاليات السياسية والإدارية في الخارج وفي المناطق التي انسحب منها النظام ، بتشكيل المؤسسات السياسية والإدارية الرسمية للمعارضة . واليوم وبعد مضي عشر سنوات على بدء الثورة يجد المرء نفسه أمام لوحةً معارضة ضبابية مربكة يغطي عليها السواد من كل جانب ، ويضع السوري أمام أسئلة كثيرة منها : هل حقاً الثورة انتهت ، وأن أكثرية المعارضين والمعارضات قد سقطت وإنهزمت أخلاقياً قبل أن تنهزم سياسياً وعسكرياً ؟. ألم تنقسم المعارضة إلى معارضات وتوزعت على مصادر التمويل السياسي ؟. بماذا تختلف وتتميز المعارضة عن النظام ؟. أليست المعارضة الرسمية أصبحت تعاني من الطائفية السنية ، كما النظام المحسوب على الطائفية العلوية ؟. بالرغم من كل ماحدث وحصل من تحريف لمسار الثورة وسرقتها وأخذها إلى خندق آخر من قبل بعض أجنحة الأسلمة السياسية ، لماذا غالبية المعارضة العربية السنية مازالت مصرة على أن الإسلام ليس مجرد عقيدة دينية روحانية فقط ، بل أنه – الإسلام – عبارة عن منظومة متكاملة ، صالحة لبناء المؤسسات وقيادة الدولة وإدارتها سياسياً وقانونياً واقتصادياً ….الخ !؟. ألا نلاحظ أن أي حديث عن المشروع الوطني السوري التغييري الجامع الذي يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة المكونات القومية والدينية والمذهبية للشعب السوري وإقامة البديل الديمقراطي أصبح اليوم أقرب للحلم منه للواقع ؟.
وفي الجانب العسكري والإداري الميداني ، هل مايسمى بالجيش الوطني السوري (المعارض ) مهمته الدفاع عن حدود الوطن، وتحريره من النظام ومن جميع أنواع الاحتلالات ، والدفاع عن كافة مكونات الشعب السوري وحماية ممتلكاتها ، أم سرقة ونهب وخطف أبناء هذه المكونات ؟. لماذا إنسحبت وتراجعت الفصائل العسكرية التي يغلب عليها الطابع الإسلامي الراديكالي من جبهات مواجهة النظام إلى المناطق ذات الغالبية الكوردية في الشمال والشمال الشرقي لسوريا بحجة وجود قوات سوريا الديمقراطية – وهي قوات ذات غالبية عربية – لاتحمل أية أجندة كوردية ؟. إذا كان هدف هذه الفصائل هو إسقاط النظام ، لماذا قامت تلك الفصائل بتسليم الغوطتين وحلب وثلث العاصمة دمشق وحمص وشمالها ….إلخ وآلاف الأطنان من مختلف أنواع الأسلحة والذخائر ، وغيرت وجهتها نحو المناطق ذات الغالبية الكوردية ؟. نعلم أن الثورة السورية افتقرت لايديولوجيا وطنية ناضجة وواضحة نتيجة الفراغ الفكري – السياسي الذي كان يعانيه المجتمع السوري بشكل عام والمكون العربي السني بصورة خاصة جراء فشل المشاريع التي رفعها القومجيون من الناصريين سابقاً والبعثيين لاحقاً ، وكذلك فشل أطياف المعارضة في صياغة مشروع وطني سوري جامع ، وندرك أسباب وقوع الثورة في مستنقع العسكرة ، وربما كان الفصل والتمايز بين الفصائل المسلحة الإسلامية المحلية الناشئة من جهة وتلك الراديكالية المعولمة الوافدة من جهة أخرى كان واضحاً في البدايات، ونعي تماماً من ساهم بطرد الضباط الوطنيين ، وبتقليص مساحة الخلاف والإختلاف بين المجاهدين المحليين والمعولمين من الراديكاليين ، ثم بدأت جولات عدة من مشاهد ” إستمرارية الولاء والإرتباط ” أو ” فك الإرتباط ” من قبل غالبية الفصائل المحلية التي تشكل منها اليوم مايسمى بالجيش الوطني مع كلاً من ” الجولاني والبغدادي ” ، حتى بتنا اليوم أمام مشهد الإندماج والتجانس شبه التام بين الوافدين والمحليين كون غالبية قيادات الفصائل المسلحة التي نراها اليوم إما كانت جزءاً من منظومتي ” داعش والنصرة ” ، أوأنها بايعت المنظومتين ثم إنفصلت ثم عادت وبايعت من جديد وهكذا، كون غالبية الموجودين على إختلاف مسمياتهم ينتمون لنفس المرجعية الفكرية والعقائدية.
وفي الجانب السياسي والرؤية المستقبلية لشكل الدولة السورية ونظام الحكم فيها ، وبإجراء مقارنة سريعة بين منظومات المعارضة السورية المختلفة من النواحي الفكرية والسياسية ورؤيتها الاقتصادية ومواقفها من وجود وحقوق المكونات السورية القومية منها أو الدينية والمذهبية ، وبين ذات الجوانب لنظام البعث الحاكم في سوريا، يمكننا أن نلاحظ بكل وضوح المساحات الشاسعة من المشتركات وأوجه الشبه . هنا من الأهمية بمكان الإشارة والإقرار بأن كلا الطرفين – غالبية أطراف المعارضة العربية السنية الرسمية والنظام – يجمعهما مشتركات أكثر من مايفرقهما بعض الاختلافات . فكلا الطرفين يحملان نفس المرض الطائفي وإن بلونية مختلفة ، نلاحظ أنهما يتفقان في العزف على نفس الإسطوانة المشروخة ، وترديدهما لذات الشعارات القومية الشوفينية ، وتكرار عين المقولات التي تحولت إلى نوع من الفوبيا من قبيل ” الوقوف بوجه المحاولات الانفصالية ، وضرورة الحفاظ على وحدة سوريا، وسيادتها وسلامة أراضيها ، وعروبتها وهويتها الإسلامية بالرغم من غياب تام لأية مشاريع أو حتى نوايا انفصالية ! . وبالنظر إلى أهداف كلا الطرفين نجد أن النظام يسعى دائماً للحفاظ على مرتكزاته العسكرية والأمنية والفكرية والسياسية في سوريا، وشرعنة وتوسيع وجوده من خلال عرض ومنح بعض الامتيازات كرشاوى لبعض المعارضات التي ركبت الموجة الثورية ، بينما لا تسعى غالبية المعارضات للمساس بجوهر البنى الفكرية والعسكرية والثقافية للنظام بشكل كامل !. ويتهرب الطرفان من الخوض في عيوب النظام المركزي الشمولي الذي تسبب في تدمير سوريا ، وتهجير أكثر من نصف سكانها ، وكذلك يتهرب الطرفان من الإقرار بمزايا النظام الاتحادي ،حيث نلاحظ أن سياساتهما تجاه هذه القضايا الوطنية الأساسية ، تحمل هي الأخرى الكثير من التشابه إلى حد التطابق، فكلاهما إلى اليوم يتهربان من الاعتراف بحقيقة وجود وحقوق المكونات السورية الأخرى وفي مقدمتها وجود وحقوق الشعب الكوردي في سوريا ، وماجرى في جولات اللجنة الدستورية خير دليل على مانقول ، ويحاولان دائما ترك الباب موارباً للتنصل من أي اتفاق قد يتم التوصل إليه بخصوص وجود هذه المكونات وحقوقها مستقبلاً ، ويرفضان مبدأ التوافق والشراكة الحقيقية في اتخاذ القرارات ورسم السياسات ، وبناء المؤسسات ، وتوزيع السلطات والثروات على مختلف المكونات وفق نسبها .
ملخص الكلام وبما أننا نقترب من ذكرى الثورة التي تكتمل عشر سنوات بالتمام من عمرها ، وخروج السوريين إلى الميادين والساحات ثائرين ضد نظام البعث أملاً في التخلص منه وإقامة البديل الوطني الديمقراطي ، ونتيجة تخاذل المجتمع الدولي وماتسمى بمجموعة أصدقاء الشعب السوري ، وفشل المعارضة الرسمية في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والإدارية كما ذكرناها، كل ذلك وضع السوريين والمراقبين للشأن السوري أمام السؤال التالي : هل حقاً بات الشعب السوري بحاجة إلى ثورة على المعارضة الرسمية بمختلف مرتكزاتها التنظيمية والسياسية والفكرية والعسكرية ، وأن إسقاطها سيساهم ويسارع في إسقاط النظام ؟.