د. محمود عباس
القضية شائكة ومرعبة دروبها، رافقت ظهور الإنسان وستستمر، مع ذلك بحثنا فيها على خلفية اللغط الذي جري حول ما أقدمنا عليه نحن في (الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سوريا) بطرق باب من أبواب العودة إلى الوطن، من خلال إعادة فتح مكتبنا في قامشلو بعد غياب طال أكثر من عقد من الزمن، حتى ولو كانت رمزيتها تغطي على واقعية الفعل، فعل العودة إلى الوطن، من واقع إحساس اللاإنتماء إلى احتمالية عودة المهاجرين الذين ربما يتجاوز عددهم المليون والنصف من جنوب غرب كوردستان، وخاصة الشريحة المثقفة، والمقدرة بشكل نسبي، بحدود ما لا يقل عن 60% بينهم خيرة الأدباء والكتاب والأطباء والمحامين وغيرهم من الاختصاصيين، إلى الوطن حيث جذور الانتماء، ومن بينهم نحن أعضاء المكتب التنفيذي لاتحادنا العام.
هنا لن أبحث في مسيرة الإتحاد العام، ما بين الوطن والمهجر، فقد تناولها الزميل إبراهيم يوسف أول المؤسسين له، بالإمكان العودة إلى مقاله المنشور في موقع (ولاتي ما) http://www.welateme.info/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=27172#.YBb3FuhKiUk.
إشكاليات عدم العودة إلى الوطن، من أصعب القضايا التي واجهت وتواجه ليس فقط شعبنا في كوردستان، بل مهاجري البشرية بأجمعها، ولها أسبابها وما يرافقها من الأهوال تكاد تكون هي ذاتها، مرتبطة بأسباب الهجرة أو التهجير، وهي ذاتها التي تنخر في مراحل استقرار الجيل الأول، وكثيرا ما تدمره نفسيا واقتصاديا وثقافيا.
لا شك، هناك مسافات فكرية ودرجات من العاطفة ما بين الحنين إلى الأهل والوطن، فنحن كشعب كوردي وبشكل عام نرجح، وفي الواقع النظري، الحنين إلى كوردستان كوطن، قبل الأهل، علما أن الحقيقة فيما وراء اللاشعور، وحسب جميع الدراسات السيكولوجية تؤكد أن معظم المغتربين حنين إلى حيث مرابع الأهل، والمكان الذي ولدوا فيه، بغض النظر عن الوطن الذي ينتمون إليه، قوميا كان أم لا، فعلى سبيل المثال عندما يتربى الطفل في أوروبا ويذهب به أهله إلى الوطن، فإنه يحن إلى المكان والأصدقاء الذين قضى معهم السنوات الأولى من العمر، ولكننا ككرد وعلى خلفية غياب كوردستان، وبشكل خاص الحراك الثقافي الكوردي نفرض على ذاتنا الواجب الوطني على العاطفة اللاشعورية، وربما هذه صفة تنامت معنا نحن الجيل الأول في الهجرة، كإحساس بتأنيب الضمير، رغم أن ما قدمناها في المهجر حتى الآن له صداه العالمي، وتأثيره الكبير على القوى المحتلة لكوردستان، رغم أنه لا يرقى إلى سوية القضية والثقل الديمغرافي الكوردي إن كان في الوطن أو المهجر.
على خلفية هذا الإحساس بالواجب الوطني، إلى جانب التضارب الفكري والنفسي، بين تقديمها في المهجر أم في الوطن، أغلبنا نفرض على ذاتنا العمل وبشكل متواصل على ترسيخ رابط العلاقة ما بين المكانين، وهو ما دفعنا أن نضع مسألة افتتاحنا لمكتبنا في قامشلو من أولويات نشاطاتنا، بل ونعتبره اليوم أحد أهم إنجازاتنا، ونقومه على أنه الخطوة الأولى نحو العودة، علما أنه كان لنا مكتب في قامشلو وديريك في السابق، ولن أتحدت عن دواعي أغلاقهما فهي مؤلمة، لكلية حراكنا الثقافي.
المهاجر رغم ما يعانيه داخليا، يواجه صراعا مع إشكاليات الانتقادات، ما بين التقصير في النشاطات كسفير لوطنه وشعبه، ونعته بأنه يريد قيادة الداخل، أو التسلط على الداخل من الخارج، وهذه الاتهامات من أهم الأسباب المؤدية إلى الانشقاق الأول في الإتحاد العام، وإغلاق مكتبنا في قامشلو، عندما كانت تسمية هذه المؤسسة لا تزال رابطة الكتاب والصحفيين الكورد في سوريا، علما أننا في المهجر نسخر معظم إمكاناتنا لرفع شأن أمتنا وحراكنا الثقافي والسياسي في المحافل الدولية، وتحسين الوضع الداخلي، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية على الأقل.
علما أننا على دراية ومن خلال دراسة تاريخ الهجرات، أن قضايا العودة تكاد تكون أكثر من معقدة، ونادرة حدوث عودة جماعية، حتى في حالات الغزوات، وأنها كانت على مر التاريخ شبه معدومة، والاستثناءات تشبه الطفرات في تاريخ الجينات، وأنا هنا لا أود أن أنشر حالة اليأس بين شعبنا، بل أود تبيان الحقيقة، علنا وكشعب كوردي عانى ويعاني من الضياع أكثر من معظم الشعوب التي حصلت فيها الهجرات الكبرى، أخذ العبر والخروج باستنتاجات نفيد بها ذاتنا وقضيتنا.
فكما نعلم أن معظم دول الشرق الأوسط الحالية تنحصر انتماءاتها إلى الشعوب المهاجرة الغازية، كالعالم العربي، وتركيا، كما وأن واقع الأمريكيتين وأستراليا ومواطن البيض في جنوب أفريقيا، هي نتاج هجرات، تأذى منها الجيل الأول، وكانت الأغلبية المطلقة تحلم بالعودة، وهو ما نراه الأن بين الكورد وغيرهم من المهاجرين إلى أوروبا أو الدول الحضارية الأخرى، ويكاد يكون من شبه المستحيل عودة نسبة 5 % من الذين نتوقع منهم العودة، في أقصى الاحتمالات، وهذه النسبة تكاد تنعدم عند الجيل المولود في تلك البلدان، بل ولن نبالغ إذا قلنا إنها معدومة عند الأغلبية المطلقة للجيل الحالي أيضا، في واقع الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحيث الحروب في أوطاننا، وحيث الفروقات المعيشية، والتي تغطي على الحنين والصراعات النفسية في اللاشعور.
جميعنا (الذين نعمل بشكل متواصل على ألا ننفصل عن الوطن، إن كان من خلال المساعدات الاقتصادية أو السياسية، أو الدبلوماسية، أو عبر فتح مراكز ثقافية أو مكاتب؛ كالخطوة التي أقدمنا عليه نحن في الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سوريا، في قامشلو بمساعدة أعضاء الإتحاد في الداخل، وغيرنا من مجموعات المثقفين والسياسيين ومنظمات المجتمع المدني) من الجيل المهاجر الأول، المتعايش مع الواقع النفسي المؤلم، وحيث الاضطرابات من كل الأنواع، والتي لا تغطيها الراحة أو لنقل الرخاء في الحياة اليومية، مقارنة بالوطن، قد لا تكون نشاطاتنا بثقل القضية، ولن تملأ كل الفراغ بين الداخل والخارج، لكن هذه الخطوة الأولى تقوي أواصر العلاقة بيننا في المهاجر والوطن، وتزيد من احتماليات العودة لشريحة ما من المهاجرين، وقد تخلق حالة استثنائية في واقع الهجرات.
نحن لا نتحدث عن الغزوات وهجرات شعوب بأكملها، والتي رغم الصراع مع واقعها الجديد، فقد أفاد أبناؤها وبنوا لأجيالهم اللاحقة دعامات وأسس مستقبل باهر، بل عن هجرة شعبنا الكوردي والتي شملت قرابة نصف شعبنا في جنوب غرب كوردستان، الذي ورغم وجود إمكانيات الاستفادة منها، ولعدم درايتنا في تسخيرها بالشكل المناسب، عمقنا خلافاتنا السياسية والثقافية، وخلقنا منطقاً جديداً في تاريخ الهجرات البشرية، وهو اختراع مقياس الوطنية ما بين الداخل والخارج، بين المهاجر والمقيم في الوطن، ولا شك معظم المتمسكين بالأرض لهم تقديرهم، ولكن لا تعني ذلك الطعن في مصداقية المهاجر الذي يكتب ويدافع بما يملك عن قضيته ووطنه، إن كان بشكل فردي أو ضمن مؤسسات، كالاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد ذوي الحضور المعروف محلياً وكوردستانيا وأكاد أقول أكثر من ذلك، وهكذا بالنسبة إلى الذين فتحوا مراكز ومؤسسات في عدة أماكن في المهجر، كالمجلس الوطني الكوردستاني في سوريا، سعينا إن يكون مركزه في واشنطن لدواع من وجهة نظرنا، وهناك العديد من الجمعيات والمؤسسات التي تربط جالياتنا مع الشعوب المحتضنة لنا، كمؤسستنا الكوردية الأمريكية في مدينة هيوستن، ولاية تكساس، ومثلها العشرات في كل المدن الأمريكية، جميعها وبدون استثناء عملت وتعمل لخدمة القضية والوطن، لهذا ولأن احتماليات العودة شبه معدومة فعلينا إن كنا في الداخل أو الخارج دعم المجموعات التي تسخر هذه المراكز لقضيتنا الكوردستانية، لا أن تطعن فيها، وتهاجمها على خلفيات حزبية. هذا بالنسبة إلى أمريكا، وهو ما يقال عن سوانا في مجمل الخريطة الأوربية، وغيرها خارج الوطن.
لا خلاف على أن التهجير أو الهجرة خلفت ورائهما ضعفاً ديمغرافياً سياسياً، وأثراُ وبشكل سلبي على التنظيمات الثقافية والسياسية والاجتماعية في الداخل، لكنهما وبالمقابل خلقا إيجابيات اقتصادية وثقافية وسياسية ودبلوماسية، كحالة روج آفا الجارية، فمجموعات من الشريحة المثقفة المهاجرة وبشكل فردي أو تنظيمي سعت وعملت وتعمل على تخفيف آثار الغربة والضياع في العالم الجديد، بفتحها أقنية التلاقي مع الأصل، والتلاؤم مع المجتمع الحاضن، وهو ما قد يحافظ على ارتباط نسبة من الأجيال اللاحقة بالوطن، وكما ندرك أن أسباب الذوبان مثلها مثل أسباب الهجرة، متنوعة، وأعدادنا في الخارج بلغت الملايين، من البعد الديمغرافي، وحلت مكاننا في الداخل ملايين من أبناء الشعوب الأخرى كما حدث لأجزاء أخرى من كوردستان الكبرى، أي أننا عمليا نخسر الوطن، ديمغرافياً، فبدون هذه الخطوة التي أقدمنا عليها، وأمثالها، والتي يجب أن تشجع وتتوسع وتساند كما أنها تسند، نكون قد ساهمنا في الضياع، وزدنا من حالة اليأس والعودة إلى الوطن حتى عند الشريحة الطامحة.
ولنكن منطقيين، ونتعلم من التاريخ، فإنه لا بد من الاقتناع بأن عودة المهجر أو المهاجر، شبه مستحيلة، يستثنى منها الحالات الفردية، أو في حال تجاوزت الدول المحتلة أو كوردستان المستقلة بديمقراطيتها وواقعها المعيشي الدول الحاضنة، وهذا وحسب الواقع المرئي تخمين طوباوي، لذا المفروض والمطلوب من منظماتنا في الداخل والخارج، ومن الحراكين الثقافي والسياسي، العمل معا، ومساعدة بعضهم بعضاً من أجل تجميع طاقاتنا وتسخيرها لصالح قضيتنا، وأي صراع بين الداخل والخارج بقدر ما يضعفنا يزيد من إمكانيات السلطات المحتلة لكوردستان.
الولايات المتحدة الأمريكية
1/2/2021م
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(101) المتحدثة باسم الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سوريا.