شعلة حزن ليس إلا في وداع الفنان الكردي محمد علي شاكر

إبراهيم محمود
لعلّي رأيته يبكي حياته، قبل أن يبصر النور. لعلي رأيته يضحك سخريةً من حياته، قبل أن تخرِجه من صفحتها الأخيرة. رأيته يبكي دون أن يبصره أحد، وهو يُوارى الثرى في حضن ” عاموداه “، كما لو أنه يبكي حياته المديدة ذات التنهيدات والحسرات والتمنيات المنسوفة، أعني به الفنان الكردي محمد علي شاكر الذي انتقل من حياة، ما أشقاها من حياة، رغم ضراوتها، إلى حياة تجد إطلالة بقاء لها في ذاكرة محبّيه، أهليه طبعاً، مقدّري الحياة فعلاً، وعن عمر قارب الـ 74 عاماً، وأبصرت شعلة الحزن الكردية بوقار المنجرح في روحه في وجه أخيه: الفنان الكردي محمود عزيز شاكر” على شاشة روداو” هذا اليوم ” الخميس 24-12/2020 “، ولا أدري ما إذا كان هذا المصدوم برحيل أخيه الأبدي، وهو العاجز عن حضور جنازته، واستقبال معزّيه، كما يليق به عزاء من أطلق في رحابة حياته رغم قسوتها أكثر من ” 300 ” أغنية كردية، عن مختلف أهواء الكردي، عواطفه، انكساراته، أحلامه، آماله وآلامه.
لعلّي رأيت الكردي، الكردي الخارج من رحم معاناة الكردي، من صلب معاناة الفن الكردي، حيث يحتفى بوجعه عن اللزوم الخاص، وبمأساته المديدة، في مناسبات خاصة، ويشار إليه، عند اللزوم، ليس كما يليق بمقامه الفني، أو الإنساني الفعلي، لأنه أكثر من إنسان فرد في روحه، وفي ألحانه، وفي ترددات مقامات صوته: أكان محمد علي شاكر، أم محمود عزيز شاكر، إنما كما يليق بمن يعجزون حتى اللحظة عن تقديم الحد الأدنى من واجب التقدير للفن، ومن يكون أهلوه، ودونما استثناء، حيث ليس في مقدورهم أن يثبتوا أنهم أهل الحياة الكردية التي يجسّدها الحرف الكردي النازف من ألف حياة من يحاول المس بمكانة الكردي، كأي إنسان كان، إلى ياء حياة من يمسك جمر الحياة المشتعل، رغم حرقتها، أعني بهم هؤلاء الذين يعرّفون بكتّابهم الكتاب، أعني بهم بهؤلاء الذين يعرّفون بفنانيهم الفنانين، وكما يستحقون شرف الاحتفاء. إنما ما أضيقها من حياة في نفوس هؤلاء التي يحيلون إليهم أغلب الحياة، ويعتبرون مجرد منْح بضع دقائق، أو عدة ساعات، تشغل كامل حياة هذا الكاتب الكردي الجدير بالاحتفاء، والفنان الكردي اللائق بالاحتفاء، أي في مناسبات أعِد لها على عجل، كما هي لحظات الوداع المعَد لها على عجل، مقارنة بحياة أولئك الذين يعرَّف بهم، أو تجري تزكيتهم زلفى، دون أن يستحقوها هنا وهناك.
لعلّي هنا، خرجت عن ” جادة الصواب ” وأنا أعرّض شعلة الحزن الكردي هنا لخطر الإزاحة أو الإنطفاء، أو أبلبل وعي القارىء الذي يبتلي بقراءة مقال نازف هو الآخر. إنما، إنما” مجدداً ” كيف لي أن أرفع شعلة الحزن الكردي هنا، إزاء رحيل كل من يستحق اعتباراً، ولا يشار إليه إلا في الزمن الكردي غير المقدَّر؟ كيف لي أن أكتب بعسّر عن حياة ذات ” 74 ” سنة، في مثال الفنان الراحل محمد علي شاكر، وأن أصف ببعض من العمق، كما هي طيات حزن وجه أخيه محمود عزيز شاكر، وهي تختزَل بهذه السرعة ؟ كيف أن أسمّي حياة فنان كردي، أو كاتب كردي ” فعلي، فعلي “، وليس ملحقاً بأحد، كردياً، حيث بالكاد أبصر حياة لها نهارها وليلها الفعليان، ساعتها الزمنية الفعلية، فرحها وحزنها الفعليان، وليس الانتقال من جرح إلى آخر أعمق وأكثر إيلاماً، وبالكاد، أبصر من يحترق بصوته فنه، وبحرقة حرفه كردياً، وما أقل أقل الذين يقدّمون ماء ليخف وجعه على الأقل، أو مؤاساة، ليشعروا بصداقة مشتركة ألماً. 
للمديد عمراً في فنه: محمد علي شاكر، للعتيد صوتاً ولحناً: محمود عزيز شاكر، لكل الذين أصيبوا بوجع إضافي صادم، في هذا التوقيت المضاعف في إيلامه ” كورونياً “، من أحبتهما، لأهلهما، لكل الذين يعيشون صحوة الفن رغم ليله الحالك كردياً هنا وهناك. أرفع شعلة حزن الكردي، شعلة حزني الإنساني، أملاً، إشعاراً بأن هناك من يعيش ألم فراق عزيزكم الفنان، أو فنانكم العزيز، رغم المسافة الجغرافية القارسة والمتعرجة والزلقة . هنا حيث أتنفس هواء دهوك الحزين شهيقاً وزفيراً بالتناوب .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها…

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…