في الجوع الكردي

 إبراهيم محمود
الجوع، دافع غريزي، هذا أبسط تعريف عضوي له، عرفناه ونحن صغار، قبل أن يعرَّف به في المدرسة، وفي لغة الإعلام، وفي الشارع، وها بتا نعرفه بمعان شتى، وقد كبرنا في العمر.
لا يحتاج الجائع، أي جائع إلى معلّم ما، لكي يبسّط له في شرح الجوع، ومتى يجوع الإنسان.
لا يحتاج الجوع، وفي أيامنا هذه تحديداً، حيث تنوعت وسائل الاتصال، إنما أيضاً وسائل التعريف بالجوع، وكيف يؤتى به، فلا يعود الإعلام المحلي، ولا الساسة المحليون، بقادرين على إقناع الجائع الذي يصبح الجوع لديه، وهو أكثر من كونه فرداً، إنما رب عائلة، هماً كبيراً، فيقوده همه إلى ما هو أبعد من الحديث المشاع عمن يكون السبب في الجوع.
الجوع دافع غريزي، إنما بأي معنى يكون الدافع هذا موجوداً، ولا يعود دافعاً غريزياً إلا ضمن حد معين  بالإنسان الجائع ؟ 
الجوع دافع مؤثر فيه من نواحيَ كثيرة، إذ له درجات، وكلما زاد الجوع، خرج عن نطاق كونه مجرد جوع، حيث يشير إلى أسبابه ومسبّباته، أي من يكون العامل الرئيس في إحداثه، وفي ترسيخه، وكيفية الحرص على تنميته لغايات، هي الأخرى لا تعود خافية على الكثيرين ممن يعرفون الجوع غريزياً، ويمضون بالجوع إلى ما وراء الجوع كغريزة.
الجوع واحد، نعم، تلك بداهة، وليس هناك من يجوع بصورة طبيعية، وتلك بداهة أيضاً، إنما ما أكثر الحالات التي يظهر فيها الجوع، ويأخذ الجوع مدى زمنياً، يقصي الإنسان الجائع هنا، عن كل شيء، لينحصر تفكيره في كيفية سده، تلك بداهة كذلك، يعرفها الإنسان العادي اليوم، أكثر من ذي قبل، بفضل تنوع وسائل الاتصال وخلافها.
صار الحديث عن الجوع أكثر من كونه جوعاً غريزياً، وما أكثر ما قيل ويقال عما يجعل الجوع بمثل هذه ” السوية العالية من التأثير المؤلم والباعث على السخط ” .
كل إنسان يفكر في الجوع بطريقة تتناسب ووضعه الاجتماعي . هذا مفهوم أيضاً .
لأتحدث عن الجوع الكردي !
لماذا الحديث عن الجوع الكردي ؟
لأن الكردي هذا، والذي ما أن يثار الجوع ، أو موضع الكردي، والأنظمة التي تقاسمت ” كردستانه ” ومن خلال المعنيين بشأن الكردي سياسياً، في مجالسهم الخاصة، وفي أدبياتهم الحزبية وشعبويتها، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى هذه الأنظمة وساستها، وما يُستهدَف من الجوع، حيث يصبح تجويعاً، لتركيعه، أو إهانته، بغرض الضغط عليه، كي ينسى قضيته، ويصبح طيعاً، مطواعاً، سلبياً، كما تخطط له هذه الأنظمة، ومن منطلق التبعية لها .
كلمات انطلقت من الواقع اليومي، لكنها، وهي في تكرارها، من قبل هؤلاء الذين عرّفوا بأنفسهم ممثلي الشعب الكردي، أخرجت الجوع من سياقه، ولم يعد يحمل دمغة الأنظمة المسماة تلك .
في أيامنا هذه، ومنذ حين من الدهر، وهو مقياس يشعر الإنسان الكردي بوطأته كثيراً، في ظل ما بات يعرف بالنظام الكردي، حيث الكرد يحكمون أنفسهم، كما يحكمون غير الكرد أيضاً، ولديهم أجهزتهم الإيديولوجية، والقوى الأمنية والبوليسية والشرطة، وغير ذلك من الداخلين في ضبط النظام هذا .
بأكثر من معنى، وبالنسبة إلى هؤلاء الذين يحكمون، ويتحدثون بالكردية، بغض النظر عن لهجاتهم، وطرق تعبيرهم، وبرامجهم المعتبرة سياسية، حيث إنهم في المحصّلة أصبحوا في موقع الحكّام والساسة المرئيين في الواجهة الإعلامية وأبعد لمن يتابعون أمرهم، في إدارتهم، وكيفية تعاملهم مع كردهم وغير كردهم .
مع النظام الكردي، اكتسب الجوع صفة الكردي بجدارة، حيث إن هذا الجوع الذي لم يعد جوعاً لدى نسبة من الكرد وغير الكرد ممن يضعون لقانون الكردي المسيطِر، وهي في ازدياد، إنما اكتسب صفة التجويع .
هناك من يجوع، وهناك من يُجوَّع.
التجويع مسمّى سياسي في الصميم.
ولقد بات في مقدور السياسي الكردي، ومن يدير شئونه في الهرم الأعلى لسلطته، أن ينمّي الجوع، بوعي أو بدونه، لكنه الوعي الذي يعرّي واقعاً يزداد سفوراً .
وسائل الإعلام لم تعد قادرة على إخفاء مصادر الجوع، وبالمقابل مصادر الثراء الفاحش التي بات يعرَف به كم وافر من الكرد، بوصفهم مليونيرية.
نحن هنا إزاء علاقة طردية: كلما زاد الجوع، ضعف الشعور بالانتماء القومي والوطني !
لقد أفصح الجوع الكردي غن عنفه، وأشباحه، قبل أن يكحّل الكردي الموعود بالوطن الكردي، والهوية التي تسمّي الكردي، ومن منطلق القومية، في إطار مؤسسات، كما لو أن هناك من كانوا ينتظرون فرصة كهذه، ليحوّلوا هذه اللحظة الغالية على قلوب ” شعبهم ” إلى لحظة صدمة تقوى حضوراً، كما لو أنهم أرادوا، ويريدون إثبات أنهم قادرون أن يجوّعوا كردهم، ومن يتبعونهم، ويضفون على الجوع قيمة كبيرة، وهم يستثمرونه لإثبات أنهم في بعض الحالات أكثر قدرة من الأنظمة التي حكمتهم، وهي قائمة إلى الآن، وهي مفارقة، بالنسبة لمن يحكمون، وهم ينسون أو يتناسون ذلك، كما لو أن شهوة إدارة السلطة، والحاكمية والإدارة الموجَّهة، سرَّعت من هذه الحالة لجعْلها ظاهرة .
الجوع الكردي، كصفة غالية، وهناك جوعى غير الكرد، في ظل من يحكمون كردياً، لم يعد خافياً على أي كان .
نعم، أجوع كغيري، وأدرك أن هناك من يستبد بي من خلاله، سوى أن هذا الذي يتحدث باسمه، أو كما يزعم في إعلامه، وهو كردي، وباللباس الكردي، واللهجة الكردية التي أفهمها جيداً، أنه لم يعد يجوع مثلي منذ زمان، فأراه جاراً لي، وقد زاد ثراء، زاد بطراً، زاد فحشاً في الثراء، وفي الفساد، والحديث عما هو كردي، وأعداء الكرد عموماً، وما يجب على الكرد التحلي به ” بالصبر طبعاً ” في شعارات تسويقية فقدت كل قيمة لها، حديث حوّل جوع الكردي إلى كراهية لكل ما يصله بهذا الكردي الذي كان يجاوره، ليصبح، وقد أصبح مسئولاً صاحب عقارات ومشاريع لم تعد خيالية من خلال مصادرها، أي حيث يزداد تجويع الكردي وغير الكردي.
صار الجوع الكردي أكثر من كونه جوعاً، وهو ظاهر، أو مرئي .
صار معنى سياسي، اقتصادي، اجتماعي ونفسي .
حين يصبح الحديث عن الجوع هو السائد، يُعرف إلى أي مدى، أصبح المتحكم بالكردي في وضعية المستغِل له.
صارت الإهانة بالمقابل كردية.
صار الإذلال اليومي كردياً .
صار التجهيل اليومي كردياً .
وفي الهوة التي تزداد عمقاً، حيث نسي أو تناسي السياسي الكردي أو المسئولي الكردي ما عليه وضع كرديه، ومن يشاركه في همه، من جوع، وبؤس وإذلال، لأنه في بنيته ليس مهيئاً لأن يصبح في موقع من ينتظر فرصة حل القضية، إنما تحويلها إلى قضيته، والآخرين إلى أدوات له .
وحين يزداد الجوع عنفاً وبطشاً، يُتوقَع القيام بأي شيء، يلغم الكردي، أو يشحنه بعنف مضاد ضد ما هو عليه، ومن صيَّره هكذا .
فالجوع بات غولاً يشاهَد في أمكنة كثيرة، ولدى شرائح كثيرة، جرّاء تسويفات كثيرة، ولازال الأعداء في واجهة الاتهام، وبالمقابل، يُرى هؤلاء الذين يحاولون توجيه أنظار كردهم وغيرهم، إلى أن الجوع مقصود من الأعداء.
وفي ظل الإدارة الكردية، والحكم الكردي، والنظام الكردية، تزداد أعداء الذين يغامرون بأرواحهم بحثاً عن مخرج، توقاً إلى بلاد تؤمن لهم خبزاً، وبعض سكينة، وقد تركوا الكردية وراءهم .
إنه جوع إلى الحرية التي أتقن ويتقن ساسة الكرد، وهم في موقع السلطة، اللغة التي تحول بين الكردي وكيفية الشعور بالحرية: الحرية بمفهومها الكردي.
إنه جوع إلى الأمان، حيث الوضع غير مستتب .
إنه جوع إلى الحد الأدنى من الإنسانية، وقد سقط المسئول السياسي الكردي، بوعي أو بدونه، في امتحان تأكيد الذات الواعية لإنسانية الكردي،  والمجتمع السوي للكردي.
ورغم تنامي جرعات الجوع الكردي، لازال هناك من يزيد في ضخ شعارات القومية الكردية، والتحرر الكردي، وكردستان، في إعلامه السمعي والبصري، والإكثار من الأنشطة لهذا الغرض .
وحين يتم تجاهل العلاقة بين تنامي الجوع، وشعور الكردي في نسبة كبيرة منه، ومن هم في وضعه ممن ليسوا كرداً، بوهم الشعارات، وهم الحديث عما هو كردي، يكون الخوف من القادم كبيراً.
لقد كان الكردي حتى الأمس القريب، يمنّ نفسه بما هو كردي، يمنحه أماناً، واعترافاً بكرديته، كأي إنسان له الحق في أن يعيش حياة كريمة .
ها هو الكردي نفسه، وقد بات محكوماً بالكردي، وقد أصبح الأمان الموعود وهماً، والاعتراف بالكردية فيه وهماً، والشعور بأنه إنسان، ويعيش بكرامة، وهو مطعون في كرامته هذه أكثر من كونه وهماً .
وفي ظل الجوع الكردي، وكما هو مرصود، بات في الإمكان الحديث عن أي شيء، إلا ما يخص قضية الكردي في إنسايته، في كرامته، وفي حريته، وقد أصبح تجويعاً مبرمجاً، أي ما ينهي القضية من أساسها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…