صبري رسول
طغت على الفكر الكُردي طوال التاريخ، منذ سيطرة الدّين الإسلامي وانتشاره في كُردستان وحتى الآن، عقائدٌ شمولية، لم تترك أي أفكارٍ أخرى من الظّهور والتّبلور والتّطّور، وهنا يمكن التأكيد على الفكر القومي، الذي ظهر لدى الشعوب الأخرى، الفارسية والعربية والتركية التي استغلّت الدين الإسلامي كصهوة جوادٍ نشط، لبناء كياناتها السّياسية وإنجاز البنى المادية.
ما يؤكد ذلك ظهور الصراعات «الشعوبية» داخل تلك المجتمعات، منذ بدايات انتشار الدين الإسلامي، وكان أحد أسباب ضعف الخلافة في العهود الأموية والعباسية والعثمانية، لكن الشعوب الأخرى اتخذت من ذاك الدّين «حصان طروادة» للدخول في النسيج الاجتماعي الكردي واستحواذ قواه الحية، ونجحت في ذلك مستغلّة بساطة الكردي وصدقه، وغالباً ما يتّخذ الآخرُ، العربيّ والفارسيّ والتركيّ من العقيدة داخل الصّدر الكردي «حصناً ومربضاً» للسيطرة على الكُرد وبلادهم وبأيدي كردية، فيفقُدُ شخصيّته، وسجاياه، ولُغته، وثقافته، ليكونَ نسخةً للآخر المُسيطِر، وظلاً له، بل وسيلة بين أيديه؛
هكذا بقيَ الكردي تابعاً، فارساً قوياً للآخر، ومخلصاً لبوابات المُلوك والخلفاء، ولم يحاول أبداً التفكير في «الأنا الكردية» وخصوصيتها، واستظلّت بالدين الذي لم يحمِه، وفضّله على كيانه الذاتية، ولم يتمكّن من التَّخلص من الطغاة ولا من الطغيان الديني أوالسياسي، واكتفى بالإخلاص للفكر الشمولي، وهذا ما حصل في العلاقة بين الكردي والفكْرَين: الدّيني الإسلامي خلال أربعة عشر قرناً، والشّيوعي خلال تسعة عقود. هذان الفكران الطاغيان كـ«أيديولوجية» استنزفا الطاقات الكردية الكبيرة لصالح تلك الشّموليات.
إنَّ تاريخَ الكُرد في الشّرق الأوسط عبارةٌ عن ركامٍ من الأحداث السياسية والعسكرية خلقتْها أنظمة الدول المتحكّمة، وانشغل بها الكُرد، متنقّلين من مرحلةٍ إلى مرحلة، ساحبين بألم أذيال الخيبة والإحباط، لِما تعرّضوا لحروب نفسية، ثقافية، لغوية، وتدميرية. ومقولة «ركامٌ من الأحداث» تشير إلى عدم قيام الكُرد بتحليل تلك الأحداث من المنظور التاريخي لبيان أسباب وقوعها كمنعطفٍ ترك أثراً في حياتهم، ولا القيام باستخلاص النتائج منه. فبقيت الأحداثُ مجرّد أسماء لوقائع تاريخية. وتدوينُ تاريخِهم اتّكأ على شهية الآخرين في «كيف يجب أنْ يكون وجود الكُرد» وليس على «وجودهم كما هو»، وبذلك شوَّه الآخرون تاريخ الكُرد، وزوّروا مجريات الأحداث، أضافوا إليها ما لم يحدث، وأخفوا منها ما حدَث، ليكون للكُرد تاريخٌ مغَيَّبٌة عنها الحقائق.
لم يستطع الكُردُ قراءة تلك الأحداث التّاريخية قراءة عميقة تشريحية وفق المعطيات السياسية، والمناخات التي أوجدَتْها، مما جعلتْها مسجَّلةً في البيانات الزّمنية، وقائمة في احتفاليات ومناسبات «انتصارية مرة وانهزامية أخرى» لذلك لم يستفد الكُرد من تلك الوقائع التي لم تخضع للتقييم، ولم تُستَخْلص منها العِبر، مما جعل احتمال تكرارها (المأساوية منها) وارداً، فاستفادَ منها أعداؤهم، وبقي الكُرد ضحاياها المُغيّبين. استلهم الكُرد أساليب بعض الطغاة في الاحتفال، الذين يرقصون على جثث الضحايا احتفالاً بعدم سقوطهم، وإقامة مهرجانات النّصر لهزائم مُعَدَّة في أروقةٍ خفية، بحجّة «رفع المعنويات» الغائبة، وهناك فِرقٌ كثيرة تطرحُ مفرداتٍ ومصطلحاتٍ تحيِّر التّاريخ والفلاسفة وتضع السّاسة والمفكرين مدهوشين من استعصاء فكّها وفهمها، وخلال أشهر تذروها الرّيحُ؛ فتطرح الفِرقُ تلك بدائل أخرى، تجرّ القامات إلى ساحات الشّهادة، لتحقيق الشّعار الذي سيختفي بدوره في أقرب محطة.
قديماً استعمل خلفاءُ الأمويين والعباسيين والعثمانيين الشّعب كوقودٍ سريعة الاشتعال، خزّاناً بشرياً لتزويد جيوشهم بفرسانه الأشداء، فوضعوهم في الجبهات الأمامية لاستحواذِ مزيدٍ من الأرض، ومزيدٍ من الغنائم، ومزيدٍ من الانتصارات لكن بأسماء ملوك الآخرين الذين دوّنوا المعارك كمفاخر تاريخية لهم، ومازلنا ننشدُ تراتيل انتصاراتهم في صباحاتنا المدرسية، ونحتفي بسيرهم باحتفالياتنا الغنائية ونخفي جروحنا. وفي عصر الدولة القومية وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية لم تترك الأنظمة المتسلطة على رقاب الكُرد وسيلةً لممارسة قمع الحريات ومصادرة حقوق الإنسان لشعوبها، إضافة إلى ذلك بنت استراتيجية واضحة في تطبيق مشاريع سياسية عرقلَت التطور الطبيعي للشعب الكردي في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي بلادنا المحروقة (سوريا) هناك زمرة من المافيا السياسية احتكرت أرضَها وسماءَها، من أقصى زيتونها إلى أدنى مزارع قطنها، ومن بحرِها إلى قمحِها، واستباحَتْ كلَّ الحدود القيمية والقانونية، ولم تتوانَ في الوقتِ نفسِه «سابقاً ومازال» في محاربة الشعب الكُردي من خلال سياساتٍ ممنهجة وطبّقتها بحق الشّعب الكردي في سوريا الذي عاش قلقاً وجودياً، لم يشعر به إخوته من الشعوب الأخرى الذين يريدون من الكُرد الالتزام بشمولية العروبة بوصفها جزءاً من الشمولية الإسلامية.
نعم، السوريون مقموعون فكرياً وسياسياً، وحرياتهم مقيّدة حسب شهيّة الحاكم، وإرادتهم مسلوبة، أما الكُرد إضافة إلى ذلك مضطهدون قومياً وثقافياً، ليس من الحاكم وحده بل من السوريين المقموعين بشكل أكثر. وهذا ثمن التزام الكُرد بالفكر الشّمولي. هكذا يتحوّل السّوري المقموع من النظام إلى جلاد فوق الكُرد.