شاهين أحمد
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ونشوء الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم، وحصول توافقات وتوازنات دولية جديدة بين المنتصرين دفعت بإنهاء الوجود الأجنبي في بعض المستعمرات ، نتجت عنها خروج القوات الفرنسية من سوريا في الـ 17 من نيسان عام 1946 ، حيث قامت النخب الوطنية السورية الأكاديمية المتأثرة بثقافة المجتمعات المدنية الأوربية ، والتي تخرجت من جامعات أوربا الغربية ،بوضع أسس الدولة الوطنية لسوريا من خلال كتابة دستور عام ١٩٥٠ ، أملاً في التأسيس لدولة مدنية تحكمها القوانين، وتسودها العدالة وحقوق الإنسان. إلا أن موجة الإنقلابات التي قادها العسكر، وظهور وإنتشار الفكر القومي العروبي وسيطرته على المشهد السياسي السوري، وضعف الوعي الوطني، وعوامل أخرى موضوعية نتيجة إنقسام المجتمع الدولي ، والإستقطابات الحادة حول القطبين العالميين آنذاك (الإتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية)،
أدت تلك العوامل مجتمعة في فرملة مساعي الحالمين بتأسيس دولة وطنية مدنية، وأجهضت محاولات نمو وتطوير مفهوم الوطن الجامع لكل السوريين، وكانت الوحدة بين سوريا ومصر سنة 1958 بمثابة طلقة الرحمة على جنين الدولة الوطنية، وطغت على الساحة الشعبية خطاب شعبوي تضليلي مشبع بشعارات غير واقعية ،كبيرة ،كاذبة ،فارغة من قبيل محاربة الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وشهدت الساحة السورية حملات اعتقال طالت كل وطني رافض التصفيق للمؤامرة، وعمت الشوارع حفلات ودبكات حماسية تمجيداً لجمال عبد الناصر !. وبالتالي ألحقت سوريا الوطن بمصر، ودفنت كل محاولات الحالمين بإقامة الدولة الوطنية السورية في مستنقعات الدكتاتورية . في الـ 28 من أيلول 1961 قامت مجموعة ضباط سوريين بقيادة المقدم عبد الكريم النحلاوي بانقلاب عسكري وإعلان فك الإرتباط بين سوريا ومصر،حيث حاول الإنفصاليون خلق إنطباع بأنهم قوميون عرب أكثر من عبد الناصر نفسه، وذلك بالتشدد أكثر في مجال طرح الشعارات القومية العربية وفي مزاودة واضحة على عبد الناصر وحلفائه، وكان من بين المناصرين للإنفصال ،الثنائي أكرم الحوراني وصلاح البيطار اللذين كانا من بين أركان الفكر القوموي العروبي ومن أهم الموقعين على وثيقة الانفصال في الـ 2 من تشرين الأول سنة 1961. بعد أن فشلت الوحدة نتيجة عوامل عدة – لسنا في معرض شرحها في هذه المساهمة – منها تهميش سوريا ، وتدمير بنيتها الإقتصادية من خلال تأميم بنوكها الخاصة ومؤسساتها الصناعية الكبرى، وحل أحزابها، وتسريح ضباطها، وإحكام القبضة الأمنية على مفاصل الحياة فيها …إلخ .وبعد حصول الطلاق النهائي بين سوريا ومصر برزت في المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص عدة مشاريع ايديولوجية عابرة لحدود الدولة الوطنية السورية طيلة أكثر من نصف قرن ، ولم تنظر أصحاب تلك المشاريع إلى سوريا كدولة ذات جغرافية محدّدة ونهائية يستوجب العمل عليها ومن خلالها ، بل نظرت إليها كمنطلقٍ لتحقيق حلم أكبر وأوسع ، وكل تيار وفق رؤيته وعقيدته ، وبالرغم من التباين الإيديولوجي الكبير فيما بينها ، إلا أنها كانت – المشاريع – تلتقي في محاربة أية محاولة وكل صوت وطني طامح للتأسيس للدولة الوطنية في سوريا . وبالتالي تم إدخال سوريا لنفق الشوفينية المظلمة تمهيداً لإنقلاب البعث في الـ 8 من آذار سنة 1963 ،هذا الإنقلاب الذي سرق سوريا الوطن من السوريين وسلمها للمشروع القومي العروبي الإقصائي العابر للحدود ، ونشر السموم في مفاصل مكونات الشعب السوري،وطغت فكرة توحيد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج على الحراك الفكري ، وغرقت الدولة الوطنية مرة أخرى في بحر المزاودات والشعارات القوموية !.ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي السوري الذي كان يملك شرائح جماهيرية واسعة ومؤثرة في تلك المرحلة ، والذي رفض حل نفسه وتعرضت قياداته وكوادره خلال مرحلة الوحدة للملاحقة والإعتقال ، كان هو الاخر يحمل مشروعاً أممياً عابراً للحدود الوطنية السورية ، حيث كان مركز مرجعيته وتوجيهه في موسكو عاصمة الإتحاد السوفيتي السابق . وكذلك الأسلمة السياسية السنية التي تُعتبر جماعة الإخوان المسلمين أبرز تياراتها المنظمة في سوريا كانت ولا تزال تملك مشروعاً دينياً إسلامياً عابراً للحدود الوطنية السورية ، وتحلم بإقامة خلافة إسلامية شمولية شاملة على كامل الكرة الأرضية !. ولاننسى هنا المشروع القبلي العشائري المتماهي مع مشيخات الخليج ، والذي كان ومازال يحظى بقاعدة شعبية قوية في مساحات واسعة من سوريا .
ما هي شروط ومناخات ومزايا دولة المواطنة ؟.
بداية وكي لايخرج علينا أحد من الإخوة ويشرح لنا مزايا دولة المواطنة ، نقول لهؤلاء بأن ” دولة المواطنة ” تعتبر أحد أفضل النماذج التي نحلم بها،لما يحمل هذا النموذج من سيادة القانون والمساواة والعدالة الإجتماعية ، وتجاوز لحقول التمييز والعنصرية ، وتوفير سبل العيش الكريم لقاطنيها ، وفرص التطوير والمشاركة ، وشروط الانسجام والتوافق …إلخ . لكن في البلدان والمساحة التي ننتمي إليها ربما لسوء حظنا ، مازالت فيها السيطرة للمجتمعات الأهلية وثقافتها البدائية الإشكالية المشبعة بالأمراض الإجتماعية والمثيرة للكراهية والإنقسام هي الأقوى والأكثر نفوذاً ، بينما المجتمعات المدنية وثقافتها هي الأضعف والأقل مساحة ، ولم تبدأ بعد وبصورة جدية عملية بناء المجتمعات الوطنية ، وثقافتها مازالت مغيبة تماماً . وإرادة مواطني مجتمعاتنا مصادرة تماماً ، ومازالت – بلداننا – تعيش حروباً ” قذرة ومركبة ” كما يحصل في بلدنا سوريا منذ قرابة عقد من الزمن ، وبالتالي الحديث عن هذا النموذج في هذه المرحلة هو نوع من الرفاهية وأقرب إلى الخيال منه إلى الواقع . وهنا من الأهمية بمكان التذكير بأن الامور لاتقاس بالنوايا الطيبة بقدر تعلقها بالمعطيات الواقعية لذاك البلد الذي ننوي بناء هذا النموذج عليه . وبالتالي أي حديث عن دولة المواطنة في بلد كسوريا في هذه المرحلة يأتي إما كنوع من التهرب والقفز على الإستحقاقات المتعلقة بالهويات الفرعية الموجودة سواءً كانت قومية أو دينية أو مذهبية ،أو أنه جهل بحقيقة البيئة المناسبة والمناخات والمقومات الضرورية اللازمة لبناء دولة المواطنة ، ولايمكن إطلاقاً بناء دولة مواطنة في بلد مازال منقسماً على نفسه ويعتبر نفسه إمتداداً لمشاريع عابرة لحدود جغرافيته ، والجميع يدرك أن الأزمة السورية وبعد أن نجح نظام البعث وبالتعاون مع بعض أجنحة الأسلمة السياسية في القضاء على الحراك السلمي من خلال إستدراج الثوار إلى العسكرة ، وتوفير المناخات اللازمة لدخول المتطرفين إلى حواضن الثورة ، والسيطرة على مفاصل الجيش الحر ، وظهور تنظيمات إرهابية متطرفة كـ داعش والنصرة وفراخهما، وتحريف الثورة عن سكتها وأخذها إلى مكانٍ آخر تماماً ، وتكوين لوحة صارخة على الأرض ، وما نتج عن ذلك من شرخ مجتمعي كبير ، وإنقسام جغرافي وطائفي وديني وقومي وعشائري وحتى مناطقي ، وتنامي الأحقاد ، وإزدياد لمنسوب الكراهية ، وتكوين مشهد يلامس نشوب حروب أهلية شاملة بين مكونات الشعب السوري ، وتكوين دويلات داخل الحدود الإدارية والسياسية المعروفة للدولة السورية ، ناهيكم عن غياب مقومات المجتمع الوطني كلياً ، نتيجة ضعف المجتمع المدني وثقافته ، وسيطرة ثقافة المجتمع الأهلي على طول البلد وعرضه ، مما يعني بأنّ حلم الدولة الوطنية ومفهوم دولة المواطنة هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع السوري ، ويعتبر نوع من أنواع التمنيات والأحلام الجميلة الغير قابلة للتحقيق على الأقل في المدى المنظور في مجتمع يفتقر إلى أدنى شروط ومناخات هذا الطرح النبيل . وفشل الموالاة والمعارضة في تشكيل إطار يجمع السوريين ولا يفرقهم ، ينقذ البلد من دوامة العنف والحروب ، ولا يعادي من للسوريين مصلحة معهم ، يدعو للتسامح والتصالح ولا يهرب إلى الأمام ، ويعمل على بلورة حالة وطنية سورية متوافقة مع محيطها الإقليمي والدولي ، ومتصالحة مع مكونات الشعب السوري ، ومعبرة عن طموحات تلك المكونات وعلى مسافة واحدة من جميعهم ؟. وبالتالي أي حديث عن دولة المواطنة يعني قبل كل شيء إعتبار سوريا ” أمة متكاملة مستقلة ووطن نهائي ” وليست جزءاً من منظومات أو أمم لأن عماد دولة المواطنة هو إشباع خصوصيات جميع الأفراد الذين لايذوبون في إطار الجماعة ، وطالما أن الفرد الذي يشكل عماد دولة المواطنة يجب أن يتم تنشئته على أساس القيم الخاصة بدولة المواطنة ، هنا ثمة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح على جميع الشركاء في سوريا : إلا أي درجة يتقبل المواطن العربي في سوريا أن ينسى إنتمائه القومي للأمة العربية ، وينسى شعارات تحرير فلسطين ، ويقفز فوق حلمه ببناء الخلافة العربية الإسلامية ؟. وكذلك المواطن الكوردي السوري الذي تعرض طوال أكثر من ستة عقود لشتى صنوف الظلم والإضطهاد لمحو هويته القومية ، ولم يتحقق حلمه في الخصوصية القومية ، إلى أي حد سيتقبل هذا الكوردي القفز فوق أحلامه وإنتمائه للأمة الكوردية ؟. وهكذا بالنسبة لأفراد بقية المكونات السورية . لتكن طروحاتنا واقعية كي لا نهدر المزيد من الوقت ، دولة المواطنة يمكن الحديث عنها فقط عندما يتم الإنتقال من المجتمع الأهلي والتخلص من ثقافته إلى المجتمع المدني ومن ثم التأسيس للمجتمع الوطني وذلك بعد إنجاز كافة الاستحقاقات المتعلقة بالهويات الفرعية ( القومية والدينية والمذهبية وحتى المناطقية ) ووضع حلول علمية وواقعية لها .
ماالغاية من طرح ” دولة المواطنة ” كشكل لسوريا المستقبل من جانب غالبية نخب المعارضة العربية السورية في هذه المرحلة بالذات ؟.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة ومن أوساط وشرائح واسعة من المعارضة السورية ومن المكون العربي تحديداً، عن دولة المواطنة، وطرحها كحل لسوريا وذلك بعد أن طرحت فكرة الفدرالية من جانب بعض الأطراف الدولية الفاعلة والتي لها تأثير بشكل أو بآخر على الأزمة السورية ، وكذلك تمسك المجلس الوطني الكوردي ENKS بالفدرالية ، مما أثار مخاوف لدى الأوساط الشوفينية للمكون العربي في المعارضة والموالاة على حدٍ سواء !. وبالتالي يأتي طرح هذا النموذج – دولة المواطنة – في هذه المرحلة كنوع من التهرب من الفدرالية أولاً ، والتمسك بالمركزية وإعادة استنساخ النظام ثانياً ، والقفز فوق الإستحقاقات المتعلقة بالمكونات القومية والدينية والمذهبيةً وفي مقدمتها الإستحقاق المتعلق بقضية الشعب الكوردي القومية ثالثاً .
خلاصة القول : إن فكرة دولة المواطنة رغم نبلها، وسمو قيمها ، إلا أنها حديثة العهد في بلدنا سوريا، وطرحها بهذا الشكل يثير شكوكاً لدى شرائح واسعة من شعبنا، وتندرج في حقول بعيدة عن أهدافها، وفي ظل ظروف استثنائية غير ملائمة إطلاقاً،كون بلدنا مازال يعيش حالة حروب وصراعات متنوعة ومركبة كما ذكرناه، وهذا الطرح يحتاج بدايةً إلى تأمين السلام والاستقرار ، وتأسيس بيئة مجتمعية واعية وحاملة للثقافة المدنية، وجاهزة لتقبل هذا النموذج ، من خلال وضع أسس سليمة للمجتمع الوطني بكل هدوء حتى تتفاعل في ظلها كل الأفكار والمبادرات بشكل موضوعي وإيجابي هادف، والعمل على شمول كافة المؤسسات في عملية البناء لهكذا نموذج ، إنطلاقاً من تغيير مناهج التربية والتعليم لكافة الصفوف ومراحل التعليم ، وتصحيح المراجع التاريخية التي زورها البعث ، ووأد ثقافة الإقصاء والتطرف والشوفينية ، ونشر وترسيخ ثقافة التسامح والتصالح ودولة المواطنة ، وتأسيس منظمات حقوق الانسان، والإعلام الرقابي الحر ، وتأسيس أحزاب على أسس وطنية ، وقبل كل شيء إعتبار سوريا وطناً متكاملاً ونهائياً قائماً على أسس الشراكة والتوافق والتوازن والطواعية … وللموضوع بقية .