الحُلْم التركي والكابوسان: الكردي-الأرمني، وبالعكس

إبراهيم محمود
تشعر الدولة التركية، ومنذ تأسيس ” جمهوريتها ” قبل قرن تقريباً ” 1924 “، أن هناك كابوسين لا يتركانها تهنأ في نومها وحلمها الإمبراطوري المستعاد: الكابوس الكردي- الأرمني، أو الأرمني –الكردي، فهما بالنسبة لها وجهان لعملة واحدة، يقضّان مضجعها، إذ بغضّ النظر عن نوعية التجاذبات الأرمنية- الكردية، وبالعكس، بصدد التاريخ والجغرافية، يقدّر الطرفان، وهما يتمثلان في شعبين حيّين تاريخياً، أن معول هدم بناء وجودهما التاريخي عثماني- تركي، ومنذ محاولات الضغط على القوى المتنفذة قبل قرن من الآن، مرفوع من قبل ممثلي الطرفين، إلى يومنا هذا، حيث لم تخل الفترة الزمنية” القرنية ” هذه، من بناء علاقات بهذا الصدد. وربما كانت جمعية ” خويبون ” في طبعتها الظاهرة كردياً سنة 1927، ذات إمضاءة أرمنية لافتة كذلك، وأن أي محاولة استعداء أي منهما ضد الآخر، إنما للتباعد التاريخي، الحقوقي المشترك بينهما، ومن قبل ساسة هذه الدولة، وإلى الآن، بغية الترتيب للإجهاز على طرف ما، ما أمكن، واعتبار ذلك تهديداً مباشراً للآخر، في أن يرعوي، أو يرتدع، حتى لا يناله ما نال الآخر.
إن احتضان أرمينيا ” الجمهورية ” للكرد، وتفعيل الأثر الكردي لغة وتاريخاً وتراثاً في الذاكرة الكردية على أرضها، كان تعبيراً عن هذا التحدي، وهذه الشراكة عملياً، وإعلاماً مستمراً للدولة التركية القائمة، بأن ما يجري إنما هو إبقاء ذاكرة المكان حية، ديمومة، وتعرية التاريخ السياسي والاستئصالي الدموي لساسة الدولة ورجالات أمنها، أو أجهزتها البوليسية والاستخباراتية.
وليس بمستغرب، الربط بين مساعي الكرد في تأكيد حقوقهم القومية، وبناء كيان سياسي لهم، دون النظر في نوعية الإخفاقات، أو أوجه الفشل في هذه العملية التاريخية، حيثما كانوا، وما تسبّب لها هذه المساعي والجهود المتواصلة من دوَار جغرافي، تاريخي ونوبات نفسية، وهي على بيّنة تامة، من هول الاستحقاقات، فيما لو تحقق ذلك، والمصير المشئوم لها سياسياً، وتلك التي يعتمدها الأرمن شعباً ودولة، سواء من خلال الكيان السياسي المقام لهم، والمعترَف به دولياً، أو من خلال توزع الأرمن في جهات الأرمن على وقْع المجازر العثمانية- التركية، والدفع بالدول ذات النفوذ الملموس عالمياً، لإلزام تركياً في أن تعترف بمجازرها ليس بالنسبة إلى الأرمن، وإنما إلى الكرد والسريان وغيرهمم من الشعوب التي بعثرتهم الدولة هذه .
في بنية الهستيريا الإعلامية، والبلاغية التحريضية بعلامتها العصبوية والتعبوية الدينية وغير الدينية لتركيا النظام الأردوغاني المحتقَن وجهاً، أي باعتماد مختلف الوسائل التي تراها معينة لها على إبقائها كما تريد، ومن ثم اللجوء إلى أساليب عنف عسكرية، إبقاء لغة التهديد بصيغ شتى إحدى أهم أدواتها في هذا الشأن، إزاء الكرد والأرمن، وبالعكس، ثمة ما ينكشف للمراقب العادي، وهو الخوف المتنامي الذي تعيشه، وهي تبحث عن استقرار ما، سعياً إلى إسكات أي طرف، للتفرغ للطرف الآخر.
ففي حربها الراهنة على أرمينيا، من خلال مرتزقتها، في مِلَلهم ونِحَلهم المعولمة شرقياً، تركياً تحديداً هنا، وعبر الحدود الأذربيجانية، لا يعنيها من أمر أذربيجان شيئاً، بمقدار ما يهمها ما تريد تحقيقها من خلال حدودها، في الوقت الذي نشهد تزايداً عالمياً بمسألة التاريخ الأرمني، والدين الإجرامي الذي تستشعره تركيا في عنقها، بصدد المجازر المرتكبة بحق الأرمن، وسط اعترافات تتزايد عالمياً، من فرنسا إلى ” أميركا ” وما يخشى منه، هو أن يصبح هذا الجانب واقعاً لا تستطيع تركيا بكل غطرستها مواجهته، ليكون ذلك نوعاً صريحاً من ضغطها على الأرمن وعبر دولتهم، للكف عن هذه المطالبات، والأنشطة ذات الصلة، وما في ذلك من انحراف مريع في مسار ما يسمى بـ” الثورة السورية ” التي كانت، كما يظهر ثورة في خدمة تركيا قبل أي دولة أخرى وهي بأجندتها الداخلية والخارجية .
وهي إذ تعمد إلى ذلك، تبقي حروبها المختلفة ضد الكرد، ووصف تنظيم سياسي من الكرد هؤلاء بالإرهاب، لإدخال الكرد في عمومها في خانته، وبذرائع شتى، أي كل من يدين السياسة التركية المتركّة، وهي بسفورها القومي: العنصري .
تجد تركيا نفسها دولة حرب، كما كانت وليدة الحرب الشعواء، وكما أنها انتقلت من حرب إلى حرب: عسكرية وسياسية، ولا فرق بينهما، فكل منهما تستدعي الأخرى، ودولة تهاجم، ليس لأنها مقدامة، وإنما خشية من انهيارها من الداخل، وهي شبه معسِكرة لمجتمعها، وليس الذي يلاحَظ في طبيعة إدارة رئيسها : أردوغان للسياسة فيها، وبشكل يومي، وما يقوم به من تعددية أدوار، وتحد، للجميع دون تفريق، إلا التعبير البليغ عن التخوف الكابوسي من انهيارها.
تركيا، منذ أكثر من قرن، لم تعرف إلى النوم الفعلي سبيلاً هادئاً آمناً، لم تستطع، في أي منام لها أن تأخذ قسطاً كافياً من الراحة، وهي بين كابوسين: كردي- أرمني، أرمني- كردي، وأخفهما ضغطاً، يبعث فيها مخاوف تصل ما بين ماضيها الدموي، وحاضرها المستنسَخ منه بجلاء.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…