إبراهيم محمود
لا أدري لماذا عندما يؤتى على ذكر بابا شيخ، الزعيم الروحي للإيزيديين، وقد كان رحيله الأبدي اليوم ” الجمعة،2-10/ 2020 ” عن عمر ناهز الـ”87 ” عاماً، تمثُل صورته أمام ناظري، إبّان الغزو الداعشي الهمجي لشنكال، وبات الذي تعرَّض له الإيزيديون جرّاء هذا الغزو من قتل جماعي، وسبي جماعي، وتنكيل جماعي، وإهانة جماعية، حديث الإعلام العالمي، وهو يمسح دموعه. تلك الدموع لم تكن دموع رجل عادي، إنما كانت تعبيراً عن قهر إيزيدييه، عن إرادة واعية وعاجزة عن فعل شيء، لرد هذا العدوان الرهيب، وكارثية نتائجه.
كانت دموعه تترجم كامل شخصيته، في ذلك اليوم المرعب مستهل آب 2014، والذي شكّل نقشاً محفوراً وبارزاً وناتئاً في ذاكرة كل إيزيدي، قبل أي كان، لتأريخ هذه الواقعة المأساوية.
كانت دموع الأب الروحي لعموم الأخوة الإيزيديين شهادة حية على تاريخ إنساني منفلت من عقاله، وتشهيراً بشرعة الأمم، وتعرية دامغة لحقوق الإنسان بمفهومها العالمي !
طويلاً، طويلاً، طويلاً، كانت صورته تلك، وهي حية، بأبعادها الثلاثية، صورة الزعيم المهيب، الزعيم المنجرح في روحه، الزعيم المسلوب الإرادة، جرّاء اعتداء مرئي ومسموع، حلقة جينوسايدية تضاف إلى سلسلة الحلقات الجينوسايدية التاريخية التي تبقي ألم الإيزيدي على أشده، وخوف الإيزيدي على أشده، وقلق الإيزيدي على أشده،ويأس الإيزيدي مما يمارَس بحقه على أشده، أعني بذلك ما بات يعرف بـ” فرمان 74 “، وكأن دموع الشيخ الجليل، بثوبه الأبيض الجليل، ولحيته الناعمة الجليلة، ووجهه الفصيح والجليل بقهره الداخلي والجليل اعتباراً، كانت تتلو سورة هذا العنف الاستئصالي الذي يتهدد إيزيدييه، دورياً، وليس في يده، أو في لسانه، أو في عقله، أو في روحه حيلة لرد هذا العدوان المرئي والمسموع عالمياً.
لا يبكي الكبير إلا لأن الألم أكبر من الجرح، والجرح أكبر من عموم الجسد، وأن هذا الجسد يستغرق كل بقعة، كل رقعة تحمل أثراً لإيزيدي: رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً، ظلاً لطاعن في السن، أو انعدام ظل لرضيع يعجز عن التقام ثدي أمه إيزيدياً، كما لو أن الجغرافية الإيزيدية في جهاتها الأربع، وهي تُخترَق بالطول والعرض، أفقياً وعمودياً، تستصرخ هذا الوجع الذي يعرفه الإيزيدي وحده، حين يطعَن في كرامته، في عقيدته، في أثره المعبدي، وحين يهان جهاراً أمام أفراد عائلته، وحين يقتَل بصيغ شتى في وسطهم، أو حين يراهم وقد تعرضوا للقتل ومن ثم للتنكيل والسبي، جرحاً أكبر من الجرح المألوفاً، وانفجار مأساة غير مسبوقة في الزمان والمكان طبعاً. وأن يبكي الكبير لا يحاسَب على بكائه، وإنما يوجّه النظر إلى مدى الخلل الفظيع في مفهوم الأخلاق أو الوجدان في الجوار، ومن يحوقلون ويعوذلون إسلامياً، ومن يسمّون أنفسهم المعنيين بحقوق الإنسان، بكاء أكثر من اعتباره بكاء، إنها صرخة إدانة لكل ما هو إنساني.
شاهدت بأم عيني ما تعرض له الأحبة الإيزيديون لجمهرة الآلام والفظائع والتنكيلات، تابعتهم على طرقات، شعاب، دروب، ومسالك وعرة، وهم يهيمون على وجوههم، كما لو أنهم فقدوا الوعي جرّاء صدمة مستهل القرن الحادي والعشرين، ولا بد أن بابا شيخ، وهو يرى أكثر مما يراه الآخرون، ويقدّر أكثر مما يقدّره الآخرون، على صعيد فظاعة الوجع، وعمق الجرح الذي لا يندمل، وما سيكون عليه وضع مصابه، وشقيق مصابه، وجار مصابه، وعزيز المصاب به، وهي الدموع التي لم تتوقف تقديراً حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يعيش رعب ما جرى، وفي اعتقادي، أن ذلك الرعب الذي لم يخب أواره الحارق، كان فاعلاً موجعاً وبازدياد، في إبقاء جسده الواهن طوع المزيد من المكابدات، وهو يحاول المستحيل لأن يرجِع إيزيديه المطارَد، المنجرح، المنكوب، النازح، والمصاب في روحه، إلى ما كان، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكل ذلك شكَّل مع الأيام عبئاً يضاف إلى عبء آخر، فأي رصيد أعباء أودَع روحه؟
ما سمعت عنه، ما عرفت عنه، ما رأيت فيه من خلال الذين يوقّرونه ويبجلونه، ويلتفون حوله، وكلهم إصغاء روحي إليه من إيزيدييه الأحبة، وخارج نطاقهم كرداً آخرين وخلافهم، هو أنه كان أكبر من كونه الرجل العادي، وهو يحتضن أوجاع عموم إيزيدييه بقلبه وروحه وعقله.
في عالي السماء يا صاحب الدموع الجليلة، في عالي الذاكرة يا صاحب الموقع الجليل، في عالي الروح، يا صاحب القليل الجليل، واليد الجليلة، والذكْر الجليل الجليل.
وعزائي لكل أخ إيزيدي، لكل أخت إيزيدية برحيل جليل كهذا الـ:بابا شيخ، الشيخ الجليل بابا شيخ، وهو صحبة دموع جليلة، تشرق في أعالي وجنتين شاهدتين على عظمة بابا شيخ !
ملاحظة: حاولت كتابة هذه المرثية، منذ صباح هذا اليوم، لكن صحتي لم تمكنّي من ذلك !