وهكذا يَطرح السؤال ذاته: هل يتحمل واقع الشعب الكوردي في سوريا وجود كل هذه الأحزاب.
وهل هناك ما يبرر حالة التشتت والانقسام هذه؛ بحيث أن هناك العديد من الفئات والطبقات والأديان والمذاهب المختلفة وبالتالي (يجب) تكوين و تشكيل العديد من الأحزاب – إن كان هناك ما يبرر قيام الأحزاب ضمن هذه الأنساق التي أتينا على ذكرها – وخاصةً بالنسبة لشعب يتطلع إلى الحرية ويعتبر نفسه جزءً من حركات التحرر العالمية، وإن باتت هذه المصطلح من الذاكرة التاريخية للشعوب.
ونتساءل أيضاً: هل كذلك هناك العديد من التيارات الفكرية والسياسية، وذلك داخل المجتمع الكوردي وتحديداً في هذا الإقليم الكوردستاني، بحيث يكون ضرورياً أن تترجم الحالة الفكرية السياسية تلك ضمن أطر محددة ومتباينة وتكون عندنا العديد من القوى والكتل السياسية والتي تسمى بمجموع الأحزاب الكوردية في سوريا، أم إن الحالة والواقع الراهن لا علاقة له بكل تلك القضايا والمسائل وليس هذه التعددية الحزبية إلا نوع من الحالة المرضية لهذه المجتمعات التي ما زالت هي أسيرة الفكر والأنساق القبلية، العشائرية، الطائفية، المذهبية، الدينية ومؤخراً القومية العرقية وأخيراً الأيديولوجية والحزبية الضيقة وأحياناً – بل في أكثر الأحيان، إن لم نقل بالمطلق؛ كوننا لا نؤمن به – يكون الانقسام لأنانية مفرطة ونرجسية مريضة ولأجل أن يكون (هو) السكرتير العام والواحد الأوحد الذي يدير الكون – عفواً الحزب – بإشارةٍ من إصبعه وهكذا باتت تسمى – أو على الأقل تعرف – الأحزاب الكوردية بأسماء السكرتاريات والأمناء العامين، كما نراه اليوم في واقع وحال الحركة السياسية الكوردية.
ولكن وعلى الرغم إننا ندين ونستنكر الحالة والواقع الراهن للحركة الكوردية ونقول مع القائلين: بأن ليس هناك ما يبرر هذا التعدد والتشتت الحزبي في اطر وكيانات (سياسية) متعددة بحيث أن جُلها – إن لم نقل كُلها – لا حول ولا قوة لها، بل هناك أحزاب كوردية من دون قاعدة حزبية؛ أي دون أن تكون لديها عدد – ولو بحدودها الدنيا – من الرفاق الحزبيين ودون أن يتجاوزوا العشرات وليس المئات ناهيك الألوف وقاعدة شعبية جماهيرية تلتف حولها وتساندها وتؤازرها في المحطات السياسية التاريخية.
نعم..
وعلى الرغم إن الواقع الراهن للحركة هو واقع غير مقبول ومرفوض ولكن لا يعني في حال من الأحوال إننا ندعو إلى توحيد كل هذه الأحزاب والأطر السياسية ضمن حزب أو كتلة بعينها وهكذا وكما يقول المثل الكوردي: “نخرج من الوحل لنقع في الشوك” وبالتالي ولكي نتخلص من التشتت الحزبي نكون قد مهدنا لحالة التفرد والاستبداد والديكتاتورية؛ حيث الحزب الواحد تعني بداية الطغيان وسلطة الديكتاتورية.
إذاً هناك الحاجة إلى (لم الشمل) و”توحيد الصفوف” ولكن وفي الآن ذاته هناك ما يبرر أن يكون لدينا عدد من الأحزاب والكتل السياسية المتباينة فكرياً وأيديولوجياً وذات خط وبرنامج سياسي مختلف, وفي رأينا وحسب قراءتنا لواقع وحال مجتمعنا الكوردي بأحزابه وأطره السياسية وما تحويه من تباين في الطرح السياسي والفكري وذلك من خلال برامج هذه الأحزاب، فإننا نجد بأن هناك ثلاث تيارات أو ما يمكن تسميتها مجازاً (بمناهج فكرية) ضمن الخطاب السياسي الذي تطرحه الحركة السياسية الكوردية في سوريا، وهكذا يمكن تسمية تلك التيارات ووفق السياق المفاهيمي والأيديولوجي الذي تتبناه وتعمل من خلاله مجموعة أحزاب وكتل سياسية؛ حيث أن الخطاب السياسي أو التيار السياسي الذي يملك خطاباً سياسياً محدداً ليس محدداً ضمن إطار سياسي واحد، بل مشتت وموزعٌ على عدة أطر وكيانات سياسية؛ أي أن هناك داخل الحركة الكوردية مجموعة (باقة) أحزاب يمكن أن تصنف ضمن تيار وخطاب سياسي محدد.
وهكذا يمكن أن نقول: بأن في الحركة السياسية الكوردية هناك ثلاث خطابات وبالتالي كتل سياسية أو ثلاث (مناهج فكرية) متباينة إلى حدٍ ما وفي عدد من القضايا المصيرية لشعبنا الكوردي ويمكن تحديد هذه الكتل والتيارات الثلاث ضمن السياقات الاصطلاحية التالية:
أولاً: التيار اليساري الماركسي: ويملك خطاباً ثورياً عنفياً انقلابياً إلى حدٍ ما وهو ينهل من التاريخ الثوري لتجربة المدرسة الماركسية – اللينينية أو ما عرف في مرحلةٍ ما بقوى وروافد الثورة العالمية الثلاث؛ منظومة البلدان الاشتراكية وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي الصديق (سابقاً) وكذلك الأحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان الرأسمالية وأخيراً حركات التحرر في العالم الثالث ومنها حركة الشعب الكوردي وفي أجزائها الأربعة، حيث ما زال هذا الخطاب الثوري يؤمن بتغيير العالم من خلال ثورة شاملة في المجتمع ومن خلال الطبقة العاملة والفئات المسحوقة الأخرى وتدعو بالتالي إلى تلاحم أبناء شعوب المنطقة بمضطهَديها (بفتح الهاء) ومضطهِديها (بكسر الهاء) وإنشاء دول على أسس كونفدرالية تحقق الثورة وعلى دفعة واحدة؛ بحيث تغير الواقع المأساوي الراهن لشعوب المنطقة وهي بهذا تتخطى حاجز المفهوم القومي وكونها حركة قومية تعمل ضمن شروط تاريخية محددة وذلك في تحقيق خطوة على الطريق، بل إنها تحاول أن تحقق الثورة الشاملة وعلى الصعد القومية – العرقية والاجتماعية – الطبقية والفكرية – السياسية وخير من يمثل هذا التيار في الوقت الراهن هو حزب العمال الكوردستاني وبمجموع أطرها وكتلها السياسية المتعددة وكذلك كل من حزب يكيتي الكوردي في سوريا وتيار المستقبل وكتل أخرى تتأرجح بين خطابات متعددة.
وهكذا فهنا أيضاً (في سوريا) من يمثل هذا التيار وإن تعدد الكتل (كتل هذا الحزب) إلا أن لها برامج سياسية متشابهة إن لم نقل متطابقة والخلاف بين كتل (البارتي) في سوريا ليس على البرنامج والمنهاج السياسي أو الكردايتي وإنما على “الكرسايتي” كما قال أحد الأصدقاء.
وهكذا تعرف هذه الكتلة السياسية في جسم الحركة الكوردية بمجموعة (البارتي).
ولكن وإضافة إلى هذه الكتل والتيارات السياسية الثلاث والتي أتينا على ذكرها، هناك بعض الأحزاب والكتل التي تأرجح في خطابها السياسي والفكري الأيديولوجي بين تلك التيارات الثلاث ومن بينهم أحزاب (عريقة) ولها دورها ووجودها في الساحة السياسية الكوردية في سوريا وأكثرهم تمثيلاً لهذه الحالة هو حزب آزادي الكوردي في سوريا؛ حيث نجد أن خطابه السياسي يحاول أن يوافق بين خطابي التيار الأول والثالث، فهو يستخدم الإرث الثقافي للفكر اليساري الماركسي في تحليلاته السياسية ويسقطها على الحالة القومية لتحديد مصير شعبنا الكوردي وفق صيغ أيديولوجية يسارية كما قلنا آنفاً وهو بذلك يحاول أن يوفق بين الخطابين: الماركسي اليساري والقومي الكلاسيكي.
أما بالنسبة إلى كلٍ من التيار الليبرالي العلماني وكذلك بالنسبة إلى التيار الديني وبجناحيه المعتدل والسلفي المتطرف أو المتشدد فلم تجد بعد أطرها وصيغها وبرامجها المحددة والمحدودة وفق كتل وأطر سياسية تضمها داخلها؛ حيث هي ما زالت موزعة ومشتت بين الأطر الثلاث السابقة وخاصةً ضمن التيار القومي الكوردستاني المحافظ؛ أي داخل (البارتي).
طبعاً يعتبر ذاك؛ (أي انضمام الجماعات الدينية في الحراك السياسي لمجموعة البارتي) دقيقاً وصحيحاً بالنسبة إلى تلك الجماعات أو المجموعات الدينية (الإسلامية) التي تتسم بالاعتدال؛ حيث أن المجتمع الكوردي (برمته) لم يحتضن بعد الفكر الديني الأصولي المتشدد والمتطرف، وهكذا..
فإن (البارتي) يحاول أن يضم كل الطيف السياسي الكوردي والذي يعتبر أن حل القضية والمسألة القومية من أولويات أجندتها السياسية، وذلك مهما كانت مشاربهم ومنابعهم الاجتماعية الطبقية والدينية المذهبية لتلك الكتل والجماعات المنضوية تحت رايتها؛ (أي راية البارتي).
وكذلك بالنسبة إلى التيار العلماني الليبرالي فهو ما زال ضعيفاً بشكلٍ عام في مجتمعاتنا وصوته ما زال غير مسموع وضعيف أما “صوت المدفع” والقوميين الكلاسيكيين وأصحاب “المواطنة والوطنية الجديدة” ويحاول؛ أي التيار العلماني الليبرالي أن يقوم بدورٍ ما وذلك ضمن الأنساق والتيارات السابقة كلها، حيث هو مشتت وموزع بين كل الكتل والتيارات السياسية الموجودة حالياً والتي تشكل بجموعها جسم الحركة السياسية الكوردية في إقليم كوردستان سوريا، فهل ينجح في مسعاه ذاك.
تنويه: لابد من الإشارة والتنويه إلى أن هذه القراءة تبقى صحيحة نسبياً؛ أي أن الفرز والاصطفاف الذي أشرنا إليه بالتيارات الثلاث السابقة لم تأخذ شكلها النهائي، بحيث أن هناك نقاء في هذا التيار أو ذاك – وهذا مستحيل في الواقع الاجتماعي؛ حيث تبقى دائماً تداخل بين طبقات وشرائح المجتمع المختلفة وبالتالي انعكاساتها وتلونها في الكتل السياسية – وهكذا فما زال وفي التيار والكتلة الواحدة تجد التلون السياسي والأيديولوجي المنتمي للتيارات الثلاث وغيرها من الأفكار والأطروحات السياسية والأيديولوجية، ولكن تبقى لكل كتلة سياسية الخط العام الذي يميزه عن الآخر كما فرزناه ضمن التيارات السابقة.