الكورد في حلبة التناطح الكبير

جان كورد
لا يخفى على أحد ما في غرب كوردستان من خيراتٍ زراعية، بترولية، معدنية ومائية، مما يسيل لعاب الدول الاقليمية والقوى العظمى في العالم، حتى أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية قالها بصراحة: “نحن في شمال سوريا من أجل القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي ومن أجل حماية البترول!” أي ليس لحماية شعب المنطقة الثرية هذه أو لمساعدة هذا الشعب للتمتّع بالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان التي يتبجّح الغربيون بها أكثر من محاضرات فلاسفة الجامعات ومن صلوات القساوسة في الكنائس، وهو على الأغلب شعب الكورد الذي جعل من نفسه رأس الحربة العالمية ضد الإرهاب والتطرّف الديني، مثلما جعل نفسه في الماضي رأس الحربة ضد كل الغزاة والمحتلين ليس للدفاع عن أرض وطنه وإنما لصون هذه البلاد كلها وجميع شعوبها، منذ الحروب الصليبية والغزوات المغولية والتتارية والطورانية وإلى طرد المستعمرين الانجليز والفرنسيين ومن أخذ مكانهم من الدكتاتوريين فيما بعد كالشاه الفارسي وصدام حسين التكريتي.
هذه المنطقة التي في أرضها الكثير مما تحتاج إليه الدول ومصانعها من مواد تحوّلت إلى ساحة صراعٍ ساخنة بسبب استمرار الحرب السورية التي قضت في أقل من عقدٍ من الزمن على الأخضر واليابس وحوّلت جنان البلد السورية إلى مسالخ بشرية وركام المدن المنهوبة المحترقة تفوح منها روائح الأجساد المتعفنّة في الشوارع والأزقّة. وأفسحت المجال لأن يجرّب فيها كل من هبّ ودبّ سلاحه ويعرض عضلاته ويستولي على ما يشاء من قوت أهلها دون أي رادعٍ خلقي. حتى العصابات المنظمة التي حملت رايات “الجهاد” كذباً ونفاقاً صارت تتحكّم بمساحاتٍ من الأرض السورية وتفعل بمواطنيها الأحرار ما لم يفعله مجرمو التاريخ من أمثال جنكيزخان وتيمورلنك وسلاطين بني عثمان… وما فعلته هذه العصابات في منطقة عفرين الكوردية مثالٌ حي وصارخ ووصمة عارٍ في جبين كل من أيّد ودعم أو سكت عما ارتكبه ولا زال يرتكبه هؤلاء المتوحشون ضد الشعب الكوردي فيها.  
الآن، في شمال مما بقي من سوريا أرضاً وشعباً وطاقات وثروات، جيوش تتبعها جحافل المرتزقة من مختلف الأصناف والرايات، قوى كبيرة لدولٍ عظيمة وأخرى أقل منها في المرتبة العسكرية والامكانات السياسية، وتنظيمات مسلحة لأحزابٍ وميليشيات لا تمت لسوريا بصلة، ومن هذه القوى الكبرى جيوش الأمريكان والروس، ومن التي تليها في الجبروت قوى ملالي إيران والجيش التركي المشهور بوحشيته عبر التاريخ حيال الشعب الكوردي، والطيران الحربي الإسرائيلي الذي يحوم صباح مساء فوق المدن والأرياف السورية ويقصف ما يشاء، ومن ثم  مرتزقة إيران الطائفيين كحزب الله اللبناني الذي ولاؤه لإيران وليس للبنان، والعديد من التنظيمات المسلحة التي دخلت سوريا براً وجواً وبحراً بهدف النهب والسلب والتقتيل حسبما يطلب منها داعموها من إرهابيين ذوي أجنداتٍ متطرّفة، سنية أو شيعية، لا تمت للعصر الحديث بصلة، دأبها إعادة المنطقة إلى عهود الظلام الذي لم يفق منها العالم الإسلامي إلا بعد سفك الدماء والحرق والتدمير لزمنٍ طويلٍ من العذاب والمرارة. 
الروس لهم مشروع في سوريا، ألا وهو إعادة المياه إلى مجاريها بترميم النظام المنهار وتلميع صورته الملوثة بالدماء وانكار مسؤولية العائلة الحاكمة عن مسلسل الدمار والحرب والمذابح واستخدام السلاح الكيميائي وذلك لغاياتٍ وأهداف استراتيجية روسية مفضوحة: 
-جعل سوريا  مدجنة خلفية للبيت الروسي  
-توسيع المجال الحيوي الروسي العسكري على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط
-بيع السلاح لسوريا باستمرار ونهب ثرواتها باستمرار
إلاّ أن هذا لن يتحقق للروس إلاّ بما يلي: 
أولاً- طرد القوات الأمريكية، خطوةً خطوة، من شمال سوريا، حيث قامت الولايات المتحدة ببناء شبكة عسكرية متينة من قواعد ومطارات ونصبت أجهزة تنصت ومراقبة بذريعة أنها تحارب داعش وسواها من الجزيرة إلى العمق العراقي والسوري شرقاً وجنوباً حتى الحدود الاردنية – السورية – العراقية، من دون القيام بأي جهد عسكري ضد التنظيمات الإرهابية الأخرى في شمال غرب سوريا وبخاصة في منطقة عفرين الكوردية.   
ثانياً- لجم التمدد الإيراني المنافس للوجود الروسي  في سوريا
ثالثاً- إبعاد تركيا العضو في حلف النيتو عما تبقى من الكعكة السورية بعد القضاء بها على أعداء النظام وروسيا في محافظة إدلب آخر معاقل ما يسمى ب”المعارضة السورية” التي انقلبت في حقيقة الأمر  من “ثورة شعبية من أجل الحرية والديموقراطية” إلى “سرطان” في الجسد السوري بتأثيرٍ مباشر من دول اقليمية  في المنطقة.  
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف المرحلية على طريق المضي في تنفيذ المخطط الاستراتيجي لروسيا، لا بد للسياسة الروسية من أن تجد سبيلاً آخر غير التصادم المباشر مع القوات الأمريكية في الجزيرة التي يحلو للبعض تسميتها ب”شمال شرق سوريا”،  وهذا السبيل هو “خداع الكورد” الذين يبدو أنهم نسوا  الغدر الروسي لهم مرتين في التاريخ الحديث: أثناء قيامهم بتأسيس جمهورية كوردستان في عام 1946 التي أكّد الروس دعمهم لها ثم تنكّروا لوعدهم، وقبيل الغزو التركي لمنطقة عفرين قبل عامين، ناهيك عن تجربة الكورد في منطقة كاراباخ بين أرمينيا وآذربايجان وكذلك كوردستان الحمراء في عشرينيات القرن الماضي… نعم، لا بد للروس أن يخرجوا من حلبة التناطح العسكري مع الأمريكان على الأرض السورية بسحب البساط الكوردي من تحت أٌقدام الأمريكان الذين بدؤوا بعقد اتفاقية بترولية مع (مسد) الواجهة السياسية ل(قسد). حيث يعتقد الخبراء الروس بأن الأمريكان لن يبقوا طويلاً في سوريا، إلاّ إذا كانت لهم شركات بترولية ذات عقود في المنطقة، ولكن السعي الروسي لإنجاز التقارب بين النظام والكورد سيثير قلق تركيا التي تقول: “لو أراد اليابانيون أو الفرنسيون السماح لأبنائهم وبناتهم تعلّم اللغة الكوردية في بلادهم، فإنهم في حالة دعم الإرهاب الكوردي!” بل إن بعض غلاة الطورانية من أمثال رئيس الحركة القومية التركية باغجلي، الذي يعتبر مدن حلب والموصل وكركوك أراضي تركية ويجب ضمها لتركيا، يجدون أن على تركيا احتلال اقليم جنوب كوردستان المعترف به في الدستور العراقي وإلغاء أي صفة قومية كوردية لتلك المنطقة. فكيف سيتمكّن الروس من إقناع الطورانيين حلفاء الرئيس التركي أردوغان في الحكم بأن المساعي الروسية للتقريب بين الكورد والنظام (وكلاهما أعداء لتركيا حسبما تقول أنقره) ليست إلا لعبة شاطر  ولن يستفيد منها الكورد على الإطلاق؟ 
الأمريكان من جهتهم قد يسمحون للجيش التركي باحتلال كل الجزيرة لإغضاب الروس وللتخلّص من قوات (قسد) ولإرضاء تركيا وإسكات إيران وبعض العرب، إلا أن البترول أهم من الكورد والنظام معاً وكذلك استخدام منطقة الجزيرة كقاعدة ثابتة للقوات الأمريكية في مواجهة التمدد الروسي والطموح الإيراني في سوريا له أهمية استراتيجية أيضاً.
الروس لا يحاولون دق اسفين بين الأمريكان والكورد فحسب، وإنما يقولون للأمريكان بصراحة: “نحن هنا في سوريا يطلب رسمي من حكومة البلاد  فماذا أنتم هنا فاعلون؟” وكأنهم أصحاب الأرض والسيادة السورية في جيوبهم، والأمريكان يقولون: “لقد فقد رئيس هذه البلاد شرعيته منذ أن استخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، فكيف تسعون لتلميع صورته من جديد؟” 
وفي هذا التناطح الخطير الذي قد يتحوّل إلى مناوشات ومواجهات مباشرة محدودة بين قوتين نوويتين يشعر المرء بأن الكورد يقعون في الأخطاء ذاتها التي وقعوا فيها في القرن الماضي بين معاهدة  لوزان في عام  1923 وانهيار ثورة أيلول المجيدة في عام 1975… فهل الارتماء في أحضان الروس سيعرّضهم لغضب بومبيو الأمريكي وسيفتح عليهم أبواب الجهنم العثماني الجديد، أم أنهم سيخرجون هذه المرةّ من المولد بحفنة حمّص؟ 
الأيام القادمة ستأتينا بأحداثٍ ربما تكون جليلة في تاريخ الكورد في مرحلة ما بعد اسقاط مشروع تنظيم الدولة الإسلامية  الإرهابي، و لربما ستبدأ هذه الأحداث بطرد المجلس الوطني الكوردي مما يسمى بالإئتلاف السوري بدفعٍ صارخٍ من أنقرة وبفرض الأمر على العنصريين العروبيين من أمثال نصر الحريري وسواه من الذين تتفطّر قلوبهم حزناً وكمدا لأي انتصار كوردي مهما كان ضئيلاً، أو أن المجلس الكوردي سيترك بنفسه الإئتلاف لما في بقائه بينه من أضرار جسيمة للشعب الكوردي!… 
على القيادات الكوردية السورية أن تتحرّك وكأنها تسير في حقل ألغام وعليها أن تتحمّل مسؤولية فشلها لدى كل خطوة.
–  ‏  14. Sep. 2020

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…