رودوس خليل
يبدو مسلسل القبضة الحديدية والخارطة السياسية التي وضعها الرئيس التركي رجب تاهيب أردوغان لمستقبله السياسي والتي قد تمتد حسب أحلامه إلى العام 2028 تتعرض إلى كوابيس مفزعة ورياح هوجاء تعيق تقدم سفنه إلى ما يصبو إليه فالمفاجأة المتلاحقة في الشارع التركي تجعل فترة حكمه على وشك الانتهاء والتي انطلقت منذ 18 عاماً بعد أن أصبح الحاكم الوحيد في البلاد وسيطر على كل مفاصل الدولة كالبرلمان والقضاء والجيش والشرطة.
حالة من اليأس والإحباط تسود الأوساط التركية نتيجة السياسات التي تنتهجها حكومة العدالة والتنمية والتي وصلت بالبلاد إلى الصورة التالية: تراجع الاقتصاد وخسارة الليرة التركية 40% من قيمتها وارتفاع معدلات البطالة وفقدان آلاف الوظائف ووصول قطاع السياحة إلى الشلل التام والتعامل البوليسي مع جائحة كورونا وزج كل من ينتقد الحكومة وأدائها في السجون وتعامله الشرس مع القضية الكردية داخل البلاد وخارجها لتصل المواجهات بين الجيش التركي والعمال الكردستاني لمستويات لم تشهدها فترة أي رئيس سابق في تركيا ودفع الجيش إلى مغامرات خارجية بحجج واهية ليغطي على فشله الداخلي الزريع .
كل هذه الصور التي ذكرناه من ألبوم حزب العدالة والتنمية تتنبأ بأن تركية مقبلة على تغيرات كبيرة في الساحة السياسية سواء عن طريق الانتخابات أو عن طريق أشياء أخرة سنتحدث عنها بعد قليل.
أردوغان يتظاهر أنه لاعب شطرنج بارع رغم خسائره المتلاحقة فقد خسر حصانه بن علي يلدريم في الانتخابات البلدية أمام أكرم إمام أوغلو وخسر أيضاً قلعته الاقتصادية علي بابا جان صاحب الفضل الكبير في وقوف الاقتصاد التركي على قدميه وازدهاره معلناً بابا جان عن تأسيس حزب الديمقراطية والتقدم كما خسر أيضاً وزيره المرموق داوود أوغلو الذي اختلف مع أردوغان في النظرة المستقبلية لحزب العدالة والتنمية وانشق في النهاية معلناً عن حزب جديد اسماه حزب المستقبل .
لم يبق أمام أردوغان على رقعة الشطرنج سوى الجنود وقائدهم خلوصي أكار بالإضافة إلى صهريه بيرات وسلجوق الذين يشطفون وينهبون الخزينة العامة كالأفيال.
حزب العدالة والتنمية يتعرض اليوم إلى أكبر موجة استقالات وانشقاقات منذ ظهوره إذ خسر الحزب 60 ألفاً من أعضائه خلال الشهرين الماضين ومن المتوقع حسب التكهنات أن يستقيل 63 نائباً في الخريف القادم.
قد يتساءل البعض ما دام أردوغان الرجل الأوحد في البلاد ويملك قبضة حديدية لماذا لا يردع هؤلاء المنشقين؟
أردوغان الذي ملأ السجون بالسياسيين والصحافيين لا يستطيع مواجهة ومنع هذه الانشقاقات بالعنف والترهيب لأن من يقوم بها شخصيات لها وزنها ومعروفة على الساحة التركية والدولية أمثال بابا جان وداوود أوغلو وأن أي تعامل غير ديمقراطي مع هؤلاء قد يعرض أردوغان إلى المسألة القانونية دولياً.
في السنتين الأخيرتين ظهر على الساحة السياسية في تركيا صهر أردوغان الأول بيرات البيرق وزوج ابنته إسراء الذي عين وزيراً للمالية بتزكية من القصر الرئاسي أغلبية الاتراك لم يعرفوه واستقبلوا خطوة أردوغان بشيء من الريبة وأن الرئيس يدفعه إلى الواجهة السياسية وسط مخاوف من تحضيره لخلافته وتوريثه الحكم.
الشاب استمتع بصولاته وجولاته إلى أن اصطدم ذات يوم بوزير الداخلية سليمان صولو صاحب التيار القومي في حزب العدالة والتنمية وأراد تجاوز صلاحياته بقرارات متعلقة بمنع التجول لمواجهة كورونا مما دفع بصولو إلى تقديم استقالته لأردوغان الذي ارهبه الموقف ورفضها خوفاً من ألتحاق صولو بركب المنشقين وسحب صهره مؤقتاً من المشهد.
هذه القصة دفعت بالكثير من الأتراك إلى البحث في شخصية صهره ليرتبط اسمه بواحدة من أكبر فضائح الفساد والإرهاب في البلاد وهو عقد عدة صفقات لتجارة النفط مع تنظيم داعش الأرهابي في سوريا ومد أشرس تنظيم إرهابي بالمال والسلاح ليتلاعب بأمن كل من العراق وسوريا ويحصد أرواح آلاف الأبرياء هناك إلا أن الإعلام الموالي لأردوغان حاول بكل السبل نفي هذه الفضيحة ومما زاد الطين بلة في القصر الرئاسي ظهور اسم ابنه بلال في الصفقة وتسريب موقع ويكيليكس البريد الإلكتروني لصهره ونشره مما دفع أردوغان إلى تعليق دور صهره وابعاده والدفع بسلجوق بيرقدار الصهر الثاني وزوج ابنته سمية إلى الواجهة وهو مهندس ومصمم طائرة بيرقدار (بدون طيار) التي يتباهى بها أردوغان .
فبعد استقالة وزير الصناعة والتكنلوجيا نهاد أرغون تعالت أصوات داخل حزب العدالة والتنمية لتولي بيرقدار هذه الحقيبة إلا أن المعارضة كانت له بالمرصاد أيضاً وكشفت للرأي العام أن وزير الدفاع السابق فكري إيشيك قد حول لشركة بيرقدار التقنية مبلغ 63 مليون دولار لصنع ستة طائرات فقط.
كل هذه الخطوات من أردوغان كان لا بد منها لاستكمال السيطرة التامة ولتأمين حكمه عبر تشكيل عصابات عائلية كما كل الدول الديكتاتورية لتمرير الصفقات المشبوهة ونهب الخزينة العامة للدولة وأعتقد أن هذه العصابات المتمثلة بابنيه وصهريه ستكون المعول لحفر قبره ونهاية حكمه.
لم يعد لاردوغان الآن سوى إطلاق الوعود والحديث عن الأمجاد الغابرة والمطالبة بإرث الدولة العثمانية والعزف على أوتار الشعور القومي للأتراك لاسترجاع شعبيته المعهودة فتارة يتحدث عن التهديد الكردي المتصاعد وتارة يتحدث عن الوطن الأزرق في شرق المتوسط فالأتراك بارعون في اختلاق هكذا تسميات فهم يطلقون على الجمهورية التركية اسم الوطن الأم وعلى جمهورية شمال قبرص المعلنة من جانب واحد ولا تعترف بها سوى تركيا اسم الوطن الابن وهم الآن يطالبون بالوطن الأزرق.
أردوغان يعرف جيداً أين وصلت شعبية حزب العدالة والتنمية وليس هذا فقط فحزب الحركة القومية المتحالف معه هو الآخر قد خسر ثماني نقاط من شعبيته وتعصفه الخلافات وترقب للحالة الصحية لزعيمه دولت بخجلي.
الانتكاسات متواصلة على الصعيد الداخلي ووصلت إلى نقطة الامل المفقود وكلما شعر أردوغان بمغص سياسي في معدته وإلى الحاجة إلى منفس ومتنفس يلجأ إلى المناورة كإعلانه عن اكتشاف كبير للغاز في البحر الأسود وللتذكير هذه المرة الثامنة التي يعلن فيها أردوغان عن اكتشافات كبيرة للغاز وأن هذه الاكتشافات ليست سوى نتيجة لحالة معدته.
ففي ظل هذه الأوضاع ما هي السيناريوهات المحتملة وكيفية رحيل أردوغان وانتهاء حقبته؟
أولاً: الموت المفاجئ: الرئيس التركي يشعر برعب شديد وهو لا يريد تخفيف قبضته الحديدية في الحكم في ظل الملفات الكبيرة والكثيرة التي تلاحقه وتتربص بعائلته فثروته الأن تقدر بالمليارات موزعة في دول العالم ويشرف عليها ابنه بلال فالموت المفاجئ والجنازة الرسمية ما يتمناه بعد أن أكمل المهمة نهباً وفساداً وتنجيه من المحاكمة .
ثانياً البديل والتعديل : تذكر المعاضة على منابرها بشكل يومي أن ساكن القصر الرئاسي في أنقرة سيرحل في أول مناسبة انتخابية لأنه لن يحصل على نسبة 50%+1 في الدورتين أبداً ولكن أردوغان يضغط على البرلمان لتعديل هذه المادة في الدستور ويجعل الفائز من الدورة الأولى في الانتخابات مهما كانت نسبته المئوية حتى لو كانت أقل من 50% بكثير ولكن لا أعتقد أن البرلمان سيمرر هكذا تعديل لأنه سيفهم بتمادي غير مقبول من أردوغان للتمسك بالسلطة وفي حال الرفض ومعرفة أردوغان بهزيمته ربما يكون له خيار آخر مؤلم وهو انقاذ نفسه والحزب بدفع أحد أعضاء الحزب للترشح بدلاً عنه وقد يختار خلوصي أكار في هذه الحالة ويجبره على توقيع مرسوم بعدم الملاحقة والمسألة .
ثالثاً الهروب إلى المنفى: في ظل الظروف الحالية وتردي الاقتصاد وبناء السجون وقمع الحريات والبطالة تبقى جميع الاحتمالات واردة فإذا ثار الشعب التركي ولم ينجح أردوغان في قمع الثورة وأدرك الموقف فالفرار والتوجه إلى المنفى أفضل خيار له ولكن في ظل سياسات أردوغان لم يبق له أي صديق فإلى أين سيهرب؟ أتوقع سيكون أردوغان في هذه الحالة أمام خيارين أما دولة قطر أو أذربيجان ومن يدري فربما أردوغان قد قام بالفعل بشراء منزل له في الدولتين.
رابعاً السجن: إذا أصر أردوغان على قمع الثورة وانفجر الوضع العام وازدادت الاضطرابات وتحولت إلى مواجهات دامية بين المتظاهرين السلميين والشرطة قد يتدخل الجيش لصالح الشعب ويجبره على الاستقالة ويحال إلى المحكمة فحكومة الثورة عندها ستفتح كامل ملفاته منذ أن كان رئيساً لبلدية إسطنبول إلى تدميره للبلديات الكردية في جنوب شرق البلاد والتي قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
خامساً: الانقلاب العسكري والإعدام: الرئيس التركي مقتنع تماماً بكثرة الأعداء من حوله وأنهم يتهيؤون الفرصة الملائمة للانقضاض عليه.
وإذا قلنا بأن هذا السيناريو غير مقنع بصورة كافية لأن الرئيس يسيطر بالفعل وبصورة كبيرة على الجيش والشرطة وأجزاء واسعة من السلطة القضائية وأنه صاحب التوقيع الوحيد فيما يتعلق بالمناصب والترفيعات تبقى المؤسسة العسكرية وميولها للدول الغربية صاحبة الانقلابات الشهيرة وقد ينقلب بعض الضباط على أردوغان في أي لحظة وهناك حالة مشابهة في التاريخ التركي لهذا السيناريو:
في العام 1950جرت أول انتخابات حرة في تركيا فاز فيها الديمقراطي عدنان مندرس صاحب فكرة إحياء الخلافة العثمانية بمنصب رئيس الوزراء فقاد تركيا بحرفية رائعة كرجل دولة من الطراز الفريد وشهد الاقتصاد نمواً كبيراً في جميع القطاعات وأصبحت تركيا عضواً فاعلاً في حلف الناتو وأرسلت القوات التركية إلى مناطق مختلفة حول العالم ولكنه تحول إلى رجل السلطة الأوحد وقام بوضع صورته على الأوراق المالية بدلاً من صورة مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك واصطدم بحماة العلمانية وتحولت الدولة التركية إلى سجن كبير للصحفيين والسياسيين وقمعت التظاهرات وحجبت الكثير من الصحف وتدهورت الأحوال الاقتصادية على غرار مشابه للانهيار الاقتصادي الحالي مما جعل قطاعات كبيرة من الشعب ترحب بالانقلاب وتعتبره ثورة عندها قام الجيش التركي بقيادة الجنرال جمال جورسيل انقلاباً وأطاح بمندرس وأودعه السجن ووجدت المحكمة التي شكلت سريعاً إن مندرس متهم بالاختلاس وانتهاك الدستور وصدرت عليه حكم الإعدام مع اثنين من وزرائه ونفذ الحكم في جزيرة معزولة وألقيت جثته في البحر.
فالظروف الحالية لأردوغان تتشابه بشكل كبير مع عدنان مندرس فهل سيعيد التاريخ نفسه؟ أو نشهد سيناريو آخر لرحيله؟ هذا ما ستكشفه قادم الأيام.