هل ستختفي عادة المصافحة بين الناس؟

د. آلان كيكاني
اليوم مد إليّ رجل يده يطلب المصافحة، فاعتذرت منه واضعاً يدي اليمنى على صدري، وحتى لا يشعر بالمزيد من الحرج بينت له أن غايتي هي صحته لأنني طبيب وعلى احتكاك يومي مع مرضى كورونا وقبولي المصافحة قد يجلب له البلاء… صحيح أن الرجل خجل قليلاً لكنه سرعان ما أدرك انه على خطأ وأني على صواب فتقبل الأمر بصدر رحب وشكرني.
وبعد مغادرته تذكرت أنني لم أصافح أحداً منذ خمسة أشهر تقريباً وأحسست أن شيئاً ما، حنيناً، أو اشتياقاً، أو حباً لهذه العادة الاجتماعية بدأ ينتابني ويجعلني أندم على رفضي مصافحة الرجل. بل تمنيت لو أن أمامي مجموعة من الأصدقاء والأقرباء لأصافحهم وأحتضنهم واحداً واحداً بحرارة وشوق.
هل هي شحنات الألم تتفرغ من المرء حين يصافح شخصاً آخر يحبه ويرتاح لحضوره، أم أن الأمر لا يعدو كونه عاملاً نفسياً لا أكثر؟  وقد يكون الامر لا هذا ولا ذاك، وإنما عادة أدمنا عليها وبدأنا الآن نشعر بأعراض الانسحاب منها.
ومهما يكن من تأثير المصافحة على النفس في هذ الأيام وأهميتها الاجتماعية والعاطفية، فإنها عادة قديمة قدم التاريخ. ويعتقد معظم الباحثين أن اليونانيين القدماء هم أول من مارسوا المصافحة، لا لإبداء الحب أو الاشتياق للطرف الآخر بل لأسباب أمنية بحتة.
فقد كان اليوناني إذا رأى يونانياً آخر مد إليه يده ليبرهن له أن يده خالية من كل سلاح، وأنه لا يضمر الشر، ولا ينوي القتل أو القتال. وكان الطرف الآخر، هو الآخر، يمد يده لنفس السبب… ومن ثم، ومع مرور الزمن، تطورت عادة مد اليد إلى المصافحة… 
وبقيت الأجيال تتوارث هذه العادة جيلاً بعد جيل، إلى أن تغيرت دلالتها مع مرور الزمن وأصبحت تعبر في أيامنا هذه عن الود والصداقة. 
أما ما هو تأثير المصافحة على النفس، فبرأيي أن المصافحة أشبه ما تكون بقرع الكؤوس أثناء شرب الخمر. أي أنَّها محاولةٌ من المرء لإشراك أكبر قدر من الحواس في السعادة التي يسعى إليها… فشارب الخمر في سكرته، يرى خمرته بعينيه، ويشم رائحتها بأنفه، ويذوق طعمها بفمه، ويلمس كأسها بيده، وتبقى حاسة السمع التي لا تشترك في نعيم نشوته، فيقرع كأسه بكؤوس جلسائه حتى يشرك حاسة السمع في الأمر… وكذلك فالمرء عندما يقابل صديقاً عزيزاً، يمتّع نظره برؤيته، وأذنه بصوته، وأنفه برائحته، وإذا كان التذوق مستحيلاً هنا، فلماذا لا يشرك حاسة اللمس في عملية الاحتفاء؟ إذن لا بد من اللمس، والمصافحة هي أسهل أنواع اللمس. وأكثرها تأثيراً…
 وفي التاريخ القديم لهذه العادة يقال أنَ بعض الطوائف المسيحية اعتمدت المصافحة في مرحلة تاريخية معينة بديلاً عن الانحناء لأن الانحناء لا يجوز إلا لله وأقانيمه الثلاث: الأب والابن وروح القدس.
 ولاحقاً وفي القرون الوسطى عندما كانت أوروبا غارقة في الحروب وسفك الدماء لم تعد المصافحة تكفي لإثبات أن الشخص لا يحمل سلاحاً، وهنا دخل هز اليدين في الأمر لإثبات عدم وجود خشخشة أو هسهسة لسلاح يخفيه أحد المصافحَين عن الآخر، ومنها بدأت عادة هز اليدين أثناء المصافحة.
ولأن المصافحة لم يرد ذكرها في التراث الشرقي القديم فإنني على اعتقاد أنها انتقلت إلينا من الأوربيين في عصور لاحقة، ربما إبان الخلافة العباسية أو خلال السلطنة العثمانية. او ربما انتقلت قبل ذلك من الإمبراطورية الرومانية إلى الشعوب الشرقية.
ما أود قوله في نهاية هذه الأسطر هو أن عادة المصافحة تحتضر في هذه الأيام أمام ضربات كورونا الموجعة، ولا أدري إذا ما كانت ستنقرض خلال السنوات او العقود القادمة، أم أنها ستنبعث من جديد بعد زوال الوباء. وفي كل الأحوال فإنها سوف لن تعود إلى سابق عهدها.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…