سعيد يوسف
دانا آدم شميدت، عمل من جملة ما عمل مراسلا لصحيفة نيويورك تايمز من عام /1943/وحتى العام /1972/. وكان مقر عمله بيروت. وقد قام برحلتين إلى كوردستان التقى خلالهما الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني. في الأعوام /1962/و/1963/. وكان ثمرة زيارتيه المليئتين بالمغامرات والمخاطرات، كتابه المعنون ب (رحلة إلى رجال شجعان في كوردستان) الذي منه اختطفت هذه الشذرات، وجمعتها حتى كان هذا المقال البسيط والمتواضع. والذي ﻻ يغطي بالتأكيد كل ما قاله دانا شميدت عن البارزاني الخالد. كما أن ما قاله شميدت، لا يغطي من جهة أخرى حياة البارزاني الخالد.
البارزانيون هم الأسرة الحاكمة الأولى في أراضيهم منذ 1200 سنة حسبما يقول دانا شميدت، وكان أسلافهم أمراء العمادية.
في مطلع القرن التاسع عشر صار البارزانيون شيوخ الطريقة النقشبندية الصوفية التي نقلها عبيد الله النهري إلى كردستان، وكان قد أخذها بدوره عن خالد النقشبندي الذي نشرها بين الكورد في السليمانية أولا.
ولد مصطفى البارزاني عام /1903/ وسجن مع أمه في سجن عثماني عام /1905/ لمدة تسعة أشهر وكان له من العمر سنة ونصف السنة أو أكثر، وهو ابن محمد بن عبد السلام بن تاج الدين البارزاني، له ثمان أخوة أكبرهم عبد السلام الثاني.
أمضى البارزاني ست سنوات في تحصيله العلمي الابتدائي، وبعدها درس الشّريعة والفقه الإسلاميين؛ لأربع سنوات في بارزان.
وبعد نفيه أكمل دراسته الفقهية في السليمانية إلى الحدّ الذي أجيز له فيه بالتفسير والحديث. تعلم الصيد والحراثة والفلاحة، ومنذ العام /1930/ بدأ مصطفى البارزاني يقود قبيلة بارزان المقاتلة وحلفاءها من القبائل الأخرى ضد الحكومتين العراقية والبريطانية، وفي عام /1934/ لجأ الشيخ أحمد وبعض رجاله إلى تركيا، فألقت السلطات هناك القبض على بعضهم وأعدمتهم.
فعاد الشيخ إلى العراق، وسلّم نفسه للحكومة التي اشترطت وضعه وأخيه والأسرة كلها تحت الإقامة الجبرية في جنوبي العراق أولاً ثم إلى السليمانية.
قضت الأسرة زهاء عشر سنوات معظمها في السليمانية عاصمة الثقافة الكوردية.
في تشرين عام /1943/ فرّ البارزاني من إقامته في السليمانية، عائدا إلى بارزان فنصحت بريطانية الحكومة العراقية التفاوض معه بدل القوة فقبلت الحكومة بذلك واستجابت لشروط الكورد، وهي فتح المدارس الكوردية، والاعتراف الرسمي باللغة الكوردية مع مشاريع تنموية اقتصادية وصحية، فسافر البارزاني إلى بغداد، وصادق نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي على الاتفاق. وبعدها عاد البارزاني إلى بارزان مع المنفيين في السليمانية وصرح نوري السعيد في خطاب له بأن الكورد يجب أن ينالوا حقوقهم؛ لكن القوميين العرب تمكّنوا من دفع الحكومة إلى التّنصل من الاتفاق.
في أواخر عام /1945/ قرّر البارزاني مغادرة العراق مع جمع غفير من عشيرته، وقد قدر إيفلتن عددهم ب/10/آلاف . مع /3/آلاف مقاتل، بينما قدرهم البارزاني بأكثر من ذلك مع النساء والأطفال.
لم يحصل الكورد على مساعدة من الغرب ولا من أمريكا، ولم يفلحوا في إثارة اهتمامهم، وعندما سأل شميدت البارزاني عن أسباب سقوط حكومة مهاباد ردّ البارزاني اسأل الأمريكان والسوفييت، وعن رتبة الجنرال قال: أن تدريبه جاء من القتال، وأن رتبة الجنرال هي من حكومة مهاباد, وأضاف لا أهتم بالألقاب، فأنا لست إلا فرداً من الشعب الكوردي.
في /16/أيلول عام/1942/ تأسس الكومه له سلف الديمقراطي الكوردستاني إيران.. أما الديمقراطي الكوردستاني العراقي فقد تأسس في ١٦/آب عام /١٩٤٦/. وفي العام/1959/ حصل انقلاب في الحزب حينما إتخذ حمزة عبدالله قراراً تعسفياً بتوحيد المنظمات الكوردية في الحزب الشيوعي، وعندما علم البارزاني بذلك قرر طرده من الحزب مع بعض من معاونيه وذلك في المؤتمر الرابع للحزب عام/1960/. وانتخب إبراهيم أحمد سكرتيراً للحزب.
قاتل البارزاني البريطانيين والحكومة العراقية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم، كما دافع عن
جمهورية مهاباد، ضد الجيش الإيراني، الذي تمكن من القضاء على الجمهورية المذكورة بعد تنصل السوفييت من مساندتها. فلجأ البارزاني إلى الإتحاد السوفييتي مع جمع غفير من مقاتليه البيشمركة في مغامرة أسطورية، وبقي هناك لمدة اثنتي عشرة سنة، ليعود بعدها إلى العراق “وطنيا كورديا مثلما غادرها ذات يوم دون أن تؤثر فيه العقيدة الشيوعية” ( اضافة مني) بعد عفوٍ من عبد الكريم قاسم رئيس الحكومة العراقية وقتذاك.
لكن القتال نشب ثانية ضد الحكومة العراقية والقبائل الكوردية المناهضة للبارزاني الذي تمكن من سحقها وفي أيلول عام /1961/ بدأت الثورة بعد تبرّم الحكومة العراقية من اتفاقها مع الكورد.
وفي عام/.1963بدأت مرة أخرى مفاوضات الحكم الذاتي مع بغداد وكان الطالباني وقتها رئيس الوفد المفاوض الذي أثار سخط البارزاني بسبب زيارته للقاهرة والجزائر دون استشارة البارزاني، حيث أن التواصل مع الأخير كان صعبا من جهة ومن جهةٍ أخرى وقع الطالباني كما يقول شميدت تحت ضغط وإلحاح من شخصيات كردية وغيرهم ممن كانوا في بغداد. بينما كان البارزاني يرى أن المسألة الكوردية تحل في بغداد وليس في القاهرة أو الجزائر.
أظهر البارزاني مقدرة حقيقية على الإستيعاب والفهم، بنى من حوله أسطورة الزعيم الحافلة بالأسرار، ولم يسمح لأحد قط بإطلاق تلك الصفة عليه.
كان يقابل عددا كبيراً من الناس، كما كان يمضي أوقاتا طويلة وحيدا. ﻻ يعتمد على أحد ﻻ على سكرتير ولا على مشاور. يعبد الاستقلال والقوة، يملؤه شعور الأنفة والترفع منتصب كالعماد سعة تفكيره وحكمته هما قوتان غريزيتان على الرغم من المحيط البيئي القبائلي الذي فرض عليه، وقضى فيه كل حياته.
يعلق مترجم الكتاب المذكور جرجيس فتح الله المحامي قائلاً: بأن الأحداث أثبتت صدق حدس البارزاني في أكثر المواقف المصيرية، ويعترض على من يقلّل من تعلمه المدني والعلماني مضيفا أنه في سنواته التي قضاها في روسيا قد درس التاريخ والجغرافية والاقتصاد هذا علاوة على دراساته الفقهية والإسلامية.
يشيد المؤلف بالدور القيادي للبارزاني كسياسي واقعي، وخبير عسكري فليس بين الكورد كلهم من يختزن في ذاكرته مثل هذا القدر العظيم من المعلومات، وإستخدامها بهذه الدرجة من الدهاء والذكاء.
ويرى أن أعظم مأثرة للبارزاني أنه وحّد الكورد في العراق لأول مرة بالاختيار والإكراه معا.
البارزاني أسطورة الكورد في القرن العشرين. إلى حد استطاع معه أن يختزل الكورد في شخصه حتى باتت كلمة البارزاني تعادل الكوردي.
أثبت البارزاني شجاعة نادرة لا كمقاتل فحسب بل وكإنسان عادل ومنصف، يعشق وطنه، ويدافع عن حقوق شعبه، مؤمناً إيماناً راسخاً بضرورة رفع العبودية عنه، مظهراً صلابة عزمٍ لا يكلّ ولا يلين، قضى عمره على مدى عقود من الزمن في الالتحام بتربة كردستان، وجبالها، حتى يمكن القول أنه ما من جبل أو وادٍ، أو صخرة وشجرة إلا وللبارزاني حكايةً معها.
ستبقى روح البارزاني خالدة على امتداد أرض كوردستان ويبقى نهجه نابضاً في وجدان كل كوردي وفيٍّ ونبيل. إن التاريخ الكوردي مليء بالملاحم البطولية، والثورات والانتفاضات، التي قادها رجال عظماء، وإذا كان لكل عصر رجاله، فإن القرن العشرين هو قرن حركة التحرر الوطني الكوردية، بزعامة البارزاني الخالد ورجاله البيشمركة الأبطال.