د. محمود عباس
ضاع الكثير من الحقائق التاريخية، وانقلبت موازين حضور الشعوب وإسهاماتهم في بناء الحضارات أو غيابهم في منطقتنا على صفحات الكتب، جراء جهالة متناولي الأحداث أو ارتزاقهم، أو على خلفية الخلط المقصود الذي تم على مر القرون منذ هيمنة السلطات العربية الإسلامية، ومن ثم التحريفات المفروضة بأوامر الأنظمة القومية العربية والتركية والفارسية خلال العقود الماضية، إلى درجة أصبح، في مراحل زمنية، قول الحقيقة شبه جريمة.
فبعض المؤرخين العرب، أمثال شهاب الدين النويري وأبو فرج الأصفهاني وأبن فضل الله العمري، على سبيل المثال؛ عندما ذكروا تأثير سبايا العجم من شعوب الإمبراطورية الساسانية، والذين بلغوا بالآلاف في المدينة والمكة، على ولادة الأغنية العربية، كتب بعضهم؛ أن مؤسسها سمع العجم وهم يغنون، وآخرون وعلى الأغلب في المراحل اللاحقة من السلطة العربية الإسلامية، قالوا إنه سمع بعض الفرس يغنون، ومن الغرابة بينهم ابن خلدون والذي أخذها من بعض المؤرخين الأوائل، فلم ينتبه هؤلاء المتأخرون، بعد أبن خلدون، أنهم يشوهون التاريخ، لجهالتهم التمييز بين الشعوب الإيرانية، وضحالة معرفتهم بالشعوب ولغاتهم والتي على خلفيتها سموا كل من لا يتكلم العربية بالعجم، إلى أن أنتشر الصيت الفارسي في المراحل المتوسطة من العصر العباسي. ولهذا ينسب مارون عبود كغيره من الكتاب، في كتابه (أدب العرب: مختصر تاريخ نشأته وتطوره وسير مشاهير رجاله وخطوط أولى من صورهم) في منشورات الهنداوي، في فصل العصور العباسية، أبو مسلم الخرساني إلى الفرس، فيقول ” ثم عقب محمد بن علي ابنه إبراهيم المعروف بالإمام، يعضده شاب فارسي داهية هو أبو مسلم الخراساني رجل الدولة العباسية” وأبو مسلم معروف بأنه كردي، وكان معظم جنوده وقادتهم من القبائل الكوردية خلفة الإمبراطورية الساسانية، وقيل في اصله الكوردي ذما من قبل شاعر الخليفة السفاح، بعدما أغتاله خيانة في ديوانه.
تتبين من هذا التناقض، أن الفارسية طفت مع الزمن على اللغات الإيرانية الأخرى ومن ضمنها على الفهلوية الساسانية، ليس لمعرفة ولا لأن العنصر الفارسي كان هو الرئيس في جغرافية إيران، بل لرجحان كفتها بعد هيمنة المملكة السامانية أثناء الخلافة العباسية، وقد تحدثنا عن هذا في الحلقات السابقة، وعليه تم تأويل كل الحضارات الإيرانية للفرس وليس لهم منها سوى جزء بسيط. وخير من ينتبه إلى هذه هو صاحب التاج (أخلاق الملوك) الذي لم يذكر تاريخ المنطقة إلا على أسم العجم، وملوك العجم. وقد أتينا بكتاب الأمير شرف خان البدليسي (شرف نامه) كمثال عن مضامين كتب المنطقة في القرن الخامس عشر الميلادي وباللغة الدرية-الدارية-الفارسية كما يقال الآن، وحيث عدمية ذكر الفرس كليا.
لا شك الفتات المتناثرة الباقية من الأثار الأدبية والفكرية، مقارنة بأثار الحضارات التي كانت تجاريها الحضارة الساسانية، والتي كانت بينهم علاقات ثقافية وعلمية إلى درجة التبادل في البعثات والوفود، كالحضارة البيزنطية، والرومانية، والهندية والصينية، غير كافية لإظهار الحقائق التاريخية كاملة، ولذلك فما تم تحريفه وكتب على مراحل، بعد ظهور الممالك اللاحقة هي التي تفرض ذاتها على الدارسات والبحوث علما أن التحريفات أكثر من واضحة، فعلى سبيل المثال: الكتابة المنحوتة على الصخرة المسماة بنقش رستم، منسوخة باللغتين الفهلوية الشرقية واليونانية، وليست اللغة الأخمينية القديمة، ومن المعروف أن اليونانية كانت لغة ملوك السلوقيين (312 ق.م-64 ق.م) والتي سميت على أسم مؤسسها من السلالة الهلنستية سلوقس الأول نيكاتور أحد قادة جيش الإسكندر المقدوني، الذين حكموا إيران حتى مشارف الهند وأسيا الوسطى، إلى أن قضى عليهم الاشكانيون (247ق.م-224ب.م)، أو ما يسمى جدلا أخر ملوك الأخمينيين، فلم يكونوا ورثة ملوك الأخمينيين ولا إمبراطوريتهم، والإمبراطوريتين هما المرحلة ما بين سقوط الإمبراطورية الأخمينية بيد الإسكندر المقدوني إلى ظهور الساسانيين، والأخيرة تعرف أيضا بين المؤرخين باسم الإمبراطورية الأرسكيدية، وكانت ثقافة الإمبراطورية الفرثية أو ما يسمى الأشكانية (الأرسكيدية) تشمل الثقافات الإيرانية والهلنستية، فقد كان معظم حكامها من قبيلة بارني من أسيا الوسطى، وأسم مؤسسها وخليفه يؤكدان على الانتماء اليوناني، فأرساكيس الأول مؤسس الإمبراطورية خلفه شقيقه تيرايداتس، وعملة الأول كانت منقوشة باللغة اليونانية، ويذكر معظم المؤرخين، ومنهم (أدريان ديفيد هيو بيفار) و (فيستا شاخوش كورتس) و (هوما كاتوزيان) و (جين رالف جارثويت) أن القبيلة كانت تتحدث اللغة الإيرانية الشرقية إلى جانب الفهلوية الشرقية والأرامية واليونانية، أما السلوقية فلم يختلف أي من المؤرخين على يونانيتها، والتي كانت قد وضعت نهاية للغة الفهلوية القديمة.
فلماذا لم يتمكن أجداد الكورد من الحفاظ على ديمومة اللغة الفهلوية الساسانية، مثلما تمكن الفرس من أحياء لغتهم وأدبهم على مرحلتين؟ علما وكما ذكرنا في الحلقة الأولى يعتبرها العديد من المؤرخين وعلماء اللغة أنها أحد منابع اللغة الكوردية الحالية بلهجاتها، هل لغياب السلطة؟ أم لأنهم رضخوا للديانة الجديدة أكثر من الشعب الفارسي؟ أم هناك عوامل أخرى؟ ومن بينها، أن السلطات الإسلامية العربية كانت تجد أوجه المنافسة في ديمومة اللغة وأدب وروحانيات الفهلوية الساسانية، أي الكوردية، فحتى بعد إلغائها من الدواوين إلا أنها وبحكم هيمنتها على الثقافة وآداب المنطقة، كانت الند القوي في وجه اللغة العربية، حتى من البعد الروحاني فهي كانت لغة الأديان الزرادشتية والمزدكية والمانوية، ولغة المسيحيين الكورد إلى جانب الأرامية، ولهذا نلاحظ تراجع هاتين اللغتين على مدى القرون اللاحقة، بعكس الفارسية التي كانت لغة محصورة بين المجتمع الفارسي، ولم تكن لغة الدواوين والأدب حينها، لضمورها على مدى القرون ما بعد الأخمينية.
فمن غير المنطقي، أن تتالى حضارات على مدى أكثر من ألف سنة، وتمتد على جغرافيات واسعة، ما بين الأخمينية والسلوقية والأشكانية، وفي النهاية الحضارة الساسانية والتي ظلت لغتها لغة دواوين الخلافة الأموية إلى فترة ما، ومن ثم أستمرت كلغة للأدب والثقافة وأديان المنطقة، خاصة في المراحل التي كانت لا تزال فيها اللغة العربية شفاهية، ولا يوجد بين أيدينا اليوم؛ إلا جمل متناثرة وردت في الكتب الصفراء لبعض المؤرخين المسلمين، وأسماء كتب تلك الحضارات، أو الأقرب منهم، كتب الفهلوية الساسانية أصل اللغة الكوردية الحالية، أو كتابات منحوتة على صخور، أو لوحات صخرية بالكاد سلمت من التدمير. فلماذا طمرت الكتابة باللغة الكوردية لقرون طويلة؟ لتظهر ثانية وبتباطء بعد كل هذا الضياع؟
والإشكاليات هذه لا تزال تخلق العديد من الأسئلة المحيرة لدى الباحثين وتثير جدلية متضاربة فيها الكثير من الانحراف عند كتابة التاريخ، والتي استندت عليها أعداء الكرد للطعن في ثقافتهم وتاريخهم وأدبهم، السائد قرابة أربعة قرون، وعلى رقعة جغرافية واسعة، قبل هيمنة الإسلام على المنطقة، الإمبراطورية التي لم تعد هناك من شك على أن الكورد كانوا العنصر الرئيس والمهيمن عليها، من حيث السلطة واللغة الرسمية والأدبية والثقافية، رغم كل التحريفات التي جرت لاحقا، على خلفية الاسم الذي ساد على الإمبراطورية، وهو ما كان دارجا على كل الإمبراطوريات والممالك التي سميت بأسماء مؤسسيها.
ولا شك ما نحن بصدده ليس انتقاصا للغة الفارسية أو العربية، اللتين هما اليوم في قمة اللغات العالمية جمالا وأدبا، بل بحث في واقع وأسباب انحسار اللغة الكوردية ونهوض المذكورتين في الوقت الذي لم تكن بأفضل منها، إن لم تكن في يوم ما أقل منها سوية في مجال الإدارة وفي البعدين الأدبي والثقافي.
لا شك من أحد أهم أسباب خسارة الكورد هذه السيادة الأدبية والثقافية، هي في انهيار السلطة، والتي على أثرها نهضت وتطورت كما ذكرنا اللغة الفارسية، وتراجعت عن الساحة مع انهيار المملكة السامانية والغزنوية، وظلت في العتمة حتى بدايات القرن الماضي، في نفس المراحل التي برزت فيها اللغة العربية على الساحة السياسية، وانتقلت من الواقع الشفهي إلى المنسوخ، وتطورت فيما بعد على الساحتين الإدارية، والثقافية الأدبية وبسند رئيس من القرآن كسلطة روحية، وذلك خلال مرحلة قصيرة بعد سيادة السلطة الإسلامية العربية، وفرضهم اللهجة أو اللغة القريشية، أي لغة القرآن التي أصبحت لغة السلطة، علما أنه، من المعروف، كانت لقبائلها، لهجات، أحيانا لم تكن مفهومة من القبائل الأخرى، أي بمثابة لغة خاصة، ونحن هنا لسنا بصدد هذا المجال، لكن وكمثال علينا أن نأتي على ما كانت عليه اللغة العربية، قبيل سيادة الإسلام، ولنرى ما كان عليه الشعر والغناء العربي، كأحد فروع الأدب العربي، ونقارنها بما كانت عليه اللغة الفهلوية والأدب الساساني حتى بعد قرنين من انهيارها وسيادة السلطات الإسلامية العربية التي لعبت وعلى مر التاريخ دوراً محورياً في تطوير أو تحطيم لغات وأدب شعوب المنطقة بعد غزوها، ومن ضمنها، اللغة الكوردية وأدبهم وتاريخها، مقارنة باللغة العربية وخاصة الشعر والفن…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/5/2020م