د. محمود عباس
من أحد أهم الأخطاء التاريخية الدارجة، عند دراسة الحضارات الإيرانية، ولغات شعوبها، حصرها في المكون الفارسي، علما أنه لم يكن لهذا العنصر خصوصية منفردة عن باقي الشعوب الأخرى في المنطقة حتى بعد انهيار الإمبراطورية الساسانية بعدة قرون، ولم يظهر هذ التوجه الخاطئ، إلا في نهايات القرن الثالث الهجري، أي التاسع الميلادي، علما أن الفارسية أو الشعب البارسي، كما ذكرنا سابقا، كانوا جزء من مكونات الحضارات الإيرانية، وحضورهم فيها لا يزيد عما قدمه الأخرون إن لم يكن أقل، مثلها مثل اللغة العربية التي لم تكتب بها قبل الخلافة الأموية إلا الفتات، وأدبهم إن كان شعرا أو نثرا لم تكن تتجاوز الأدب الشفاهي، ولم تتطور وتصبح على سوية اللغات الأدبية رغم كل ما يقال عنها من التضخيم لتاريخها، إلا بعد نهوضها مع هيمنة الخلافة الأموية وتغيير لغة الدواوين والمراسلات من اللغة الفهلوية الساسانية، وليست الفارسية كما يقال وشاع، إلى اللغة العربية، أي بعد أن رعتها السلطة الأموية العربية التي مالت عندها كفة النزعة العربية على الأمة الإسلامية،
بل والأوسع منها أن العديد من المؤرخين يذكرون أنه في عصر الخلافة العباسية انتقل الأدب من مرحلة التلقين الشفوي إلى مرحلة التدوين والتوثيق بشكل واسع وخاصة في عصر المأمون وانتشار حركة الترجمة، وفي هذه الفترة تم تسخير أدباء ولغويي الشعوب المحتلة أو التي دخلت الإسلام طوعاً، وحملوا لغة القرآن تحت راية الإسلام، وساهموا في تطوير اللغة العربية لتصبح وفي فترة زمنية قصيرة، على سوية اللغات الأدبية في تلك المرحلة، كاللغة الفهلوية الساسانية أو الأرامية أو اليونانية والرومانية وغيرها.
وفي الواقع أن الحضارة والإمبراطورية الساسانية تجاوزت كل الحضارات الإيرانية السابقة، من حيث الثقافة وتطور آدابها وعلومها بكل جوانبها، ولغتها، ولم يكن للمكون البارسي-الفارسي علاقة بهذه الحضارة، لا من حيث اللغة ولا السلطة، ولا الأدب. واللغة الدرية التي أصبحت هي الآن اللغة الإيرانية أو اللغة الفارسية، تشكلت فيما بعد وعلى مراحل، وقد تحدثنا عنها سابقا، مع ذلك لم تعرف كلغة فارسية إلا لاحقا.
كما وأن العديد من المؤرخين كانوا يسمون ملوك الساسانيين بالأكاسرة، وليسوا بملوك الفرس كما يقال اليوم، وقد كان هذا التمييز حاضرا حتى بدايات القرن التاسع عشر. ففي كتابه (شرف نامه) الطبعة الثانية الصادرة عن دار الزمان، لا يذكر المؤرخ والأمير الكوردي شرف خان البدليسي كلمة الفرس، لا في مجال اللغة ولا كشعب أو كأصحاب دولة في عصره، وبالمقابل يذكر كردستان كإمارات ومدن، واللغة الكوردية والقبائل الكوردية كقبيلته الروژكية عشرات المرات، علما أنه ووالده كانوا يخدمون في حضن الحاشية الشاهنشاهية، لكنها لم تكن فارسية، ولم يكن للعنصر الفارس أي حضور.
وما تم ذكره في صفحات مقدمة الكتاب من قبل المترجم الكوردي المعروف محمد علي العوني، عن الفرس مرتين أو ثلاث، أو الفارسية كلغة، جاء به المترجم القدير تحت تأثير الجاري من التاريخ المحرف، والتي سقط فيها معظم المؤرخين، فحتى عندما يأتي على ذكر تعليقه عن اللغة التي كتب بها الأمير كتابه، ويقول أنه كتبها باللغة الفارسية، تتعارض ما يذكره الكاتب والذي قال أنه كتبها باللغة الدرية وأضاف عليها المترجم (الفارسية) مع القوسين، وهذه الإشكالية مشابهة لما ورد في نص المقدمة المضافة على الكتاب من قبل المترجم، ففي الصفحة (12) يقول السيد محمد علي العوني ” بدأ تاريخ الأكراد يتضح منذ فتح العرب بلاد الدولتين الفارسية والرومانية…) علما أن معظم المؤرخين يعرضونها كدولة ساسانية وبيزنطية، وليست فارسية، وهنا وجه التناقض بين المترجم المتأثر بتحريفات التاريخ التي أصبحت تسود الساحة بعد سيادة السلطة الفارسية على إيران، وهنا نود أن نؤكد؛ أن السلطات هي صاحبة التشويهات التي تحدث وهي التي ترفع من شأن آداب شعوبها، وتدمر آداب ولغات الشعوب الأخرى.
وما كان سائدا في عصر المؤرخ الأمير شرف خان البدليسي، عدمية الوجود الفارسي كمكون ولغة رغم كل ما قدمه المملكة السامانية والغزنوية في القرن الثاني من الخلافة العباسية، فلم يكن لهم وجود في كل مراحل الصراع الصفوي الشيعي والعثماني السني، مثلها مثل غيابهم بعد الإمبراطورية الأخمينية، والتي نحن بصددها وما تم من تحريفات على التاريخ في هذا المجال، واللغة الفهلوية الساسانية هي التي كانت تكتب وتقرأ عندما ظهرت السلطة العربية الإسلامية، وليست الدرية-الفارسية الحالية.
ولاحقا وفي متن الكتاب، ونحن نتحدث عن صفحات تاريخ كتب وصدر في القرن (الخامس عشر الميلادي) يتبين إما إدراك المؤرخ الأمير لهذه الإشكالية التاريخية، والتي حرفت فيما بعد بشكل واسع، أو أنه لم تكن للغة الفارسية ولا للاسم الفارسي وجود في المجالين الثقافي والسياسي حينها كليا، ولا كمكون ذو أهمية في الإمبراطورية، وعلى أثرها لم يذكرهم بتاتا في كتابه، فلا نجد في كل الكتاب كلمة الفارسية كلغة ولا فرس كشعب أو دولة، فعندما يأتي على معظم الصراعات في المنطقة وحتى في منطقة قم وشمال أصفهان، وما يجري بين الصفويون التركمان والكورد، ومن الطرف الغربي من كوردستان بين الترك العثمانيين والكورد، يذكر المؤرخ والأمير الكوردي (شرف خان البدليسي 1543-1603م) والذي عاصر قمة الصراعات السلطتين العثمانية والصفوية، في الصفحة (345) قسم (السطر الثاني-في بيان نسبة حكام(بدليس) والأصل الذي ينتمون إليه) قائلا ” المذكور في بعض التواريخ أن نسب حكام بدليس، ينتهي إلى الملوك الأكاسرة. إذ المشهور بين الناس أنهم من أحفاد وسلائل أنو شيروان، ولكن الأصح هو أنه في عهد أنو شيروان كان جاماسب ابن فيروز خامس؟ الملوك الأكاسرة، والياً على ولاية (أرمن وشيروان) نيابة عن (قباد)” وهذه الجمل وغيرها الكثيرٍ، تؤشر إلى توثيق حقيقتين تاريخيتين: الأولى أن ملوك الساسانيين كانوا كوردا، وأحد أطراف ورثتهم لا زالوا يحكمون المنطقة، وهم أمراء بدليس، أل شرف خان البدليسي المفتخر بكورديته وكوردستانيته. والثانية أن الساسانيين لم يكونوا فرسا ولم يكن للفرس كمكون ولغة أية مكانة إلا كشعب تابع للإمبراطورية لأكاسرة الساسانيين من ضمن الشعوب الإيرانية الأخرى، علما أن الأمير درس وتعلم في مدارس الشاهنشاهية وباللغة الدرية، ومن خلال تأكيده على أنهم ورثة الأكاسرة الساسانيين، فستكون لغة الأمراء الكورد ومن بينهم أمراء بدليس زعماء قبيلة روژكي استمرارية للغة الفهلوية الساسانية…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/5/2020م