حين يصبح الشعار سعاراً

 إبراهيم محمود
اليوم صباحاً، شاهدتُ مشهداً تلفزيونياً في قناة PEYAM الكردية، في هولير، حيث كانت كاميرا القناة تلتقي بالناس. استوقفتْ فتى في مقتبل العمر، حلو المنظر، فسألته: لماذا لا يرتدي القفاز والماسك، فكان جوابه السريع: ولماذا أرتديهما؟ فسئل: ألا تخاف من الإصابة بكورونا. فكان جوابه: فلأمت أفضل لي، إذ ما قيمتي وليس معي سوى ربعية ” 250 دينار عراقي “، وقد أخرجها من جيبه، ملوّحاً بها، وهو ساخط. وقد تتالت التعليقات الفيسبوكية على مشهد كهذا، ويمكن مشاهدة الآلالف من هذا القبيل، إذ كيف لي أن أمضي أشهراً، ملتزماً بالتعليمات الصادرة من الجهات المسئولة، وفي كل يوم أموت ميتات؟
لكَم استوقفني مثل هذا المشهد، وأنا أستعيد إلى الذاكرة، ما أسمع به يومياً عن الذين ينتحرون، والذين يستصرخون من يقومون على بطر، وينامون على بطر من كردنا، ولا يتوقفون عن تفليق الرؤوس بآخر الاجتماعات لهذا الحزب الكردي أو ذاك، أو بين أحزاب كردية هنا وهناك، كما لو أن الذي يجري في الشارع المتصدع، والبيت المتصدع، والمؤسسة المتصدعة، والثقافة المتداولة المتصدعة كردياً، من شكاوى الناس، وأوجاعهم لما يجري، وإهمالهم من المعنيين بأمرهم، لا صلة له بالقيّمين على الأوضاع.
نعم. من هنا يأتي الخطر، ومن هنا لا بد من التسمية:
الشعار سُعار!
فالشعار شبيه الساحة الكبيرة. كلما كبُر، كلما احتوى أخطاء وحتى جرائم تُرتَكب.
ومع كل اجتماع، وفي إثره، يتم التحدث باسم ” الجماهير الكردية ” وهذه مطحونة في أغلبها، والذين يتحدثون عما يجب أن تكون عليه اجتماعات الأحزاب هنا، وفي ” روجآفا ” وغيرهما، لا يخفون مثل هذا الانتماء إلى أصل الشعار ذاك، أو يدخلون في مزايدات، وهم يتحدثون عن العدو الخارجي، وكيف تُعدُّ العدة له، في سبيل تحقيق الحلم ” الكردستاني “.
ألا ما أكبر الوهم، وما أكبر الداخلين في الأوهام :
إما أنهم يكتبون من خلف طاولات تحزبية، أو يعيشون بعيداً عما يجري هنا وهناك، مثل ذلك الفتى الحلو المنظر، والذي ربما يمارس أي سلوك رد فعل على ما يجري .
نعم. أقولها بالفم الملآن:
بدلاً من الحديث عن حركة التحرر الكردية، ليكن الحديث، قبل كل شيء، عن حركة تأمين الخبز للناس، والقوت المتواضع، اليوم لهم.
بدلاً من الحديث عن القضية الكردية، ليكن الحديث، قبل كل شيء، عن كيفية إشعار الناس في الغالب، أنهم محل اهتمام فعلي لمن يتشدقون في الكلام باسم ” جماهير الكرد “.
بدلاً من الحديث عن كراهية الأعداء المتزايدة للكرد، ليكن الحديث، قبل كل شيء، عن الكراهية المتزايد للكم الهائل من الكرد لكرديتهم، وهم يهانون من ساستهم، ويجري إهمالهم، والدفع بهم قطيعياً هنا وهناك، وحيث تثقل عليهم الأوجاع اليومية، ويرون في كسرة الخبز صورة لوطن مهدور، وأمة مهدور، وشعب مهدور، وإنسان لا يعطى أي اعتبار .
بدلاً من الحديث عن المزيد من التعليمات المقدَّمة تلفزيونياً، ومن حجرات مكيفة، وأبنية مكيفة، وأطعمة مخصصة، وعبر قاعات مكيفة، ليكن الحديث عن كيفية لقاء الناس في بيوتهم، ممن يشدون الناس من أرواحهم، وأن يخرج هؤلاء المليونيرية والمليارديرية بأموال لم تهبط إليهم من سماء لم تكتشَف بعد، ويظهِروا للناس أنهم من ذات الطينة التي خرجوا منها، وأنهم معهم، ولو بنسبة مئوية ضيئلة منهم، ليشعر هؤلاء في اللحظة القاتلة هذه، أن هناك من يهتم بأمرهم.
يعلم المسئول السياسي، الأمني، الثقافي، الاقتصادي، الاجتماعي، التربوي، والحزبي الكردي، أن الجوع في منتهاه كافر. وأن الذي يجوع لا شك في أنه على وشك أن يصبح كافراً، ولا أسمّي الفراغ الذي يلي تحول أحدهم إلى كافر.
أم أن هؤلاء الذين فتنتْهم أموالهم ومناصبهم وعقائدهم المكتبية، وشعاراتهم المتجددة والمستحدثة والمولَّفة، نسوا أنهم ينتمون إلى أمة المغلوبين على أمرهم، أنهم كانوا ذات يوم، يساطون بحرارة الصيف، ولسع البرد القارس، ويحلمون بخبز ساخن وسكن متواضع يأويهم ؟
أما زلنا نلوم أعداءنا وهم يسخرون منا، وثمة من بيننا ” من يعلونا شأناً ” لا يدخرون جهداً في أن يكونوا مثلهم في لبسهم وطعامهم وشرابهم ومتعهم، وسيارتهم المفيمة وحرسهم الخاص، وهم المعنيون بحق تقرير المصير للكرد، ويُطلَب منهم إحقاق هذا الحق قبل ” العدو “، وبعدها لنتحدث عن الكرد والكردية، وعن كردستان ذات الـ ” 500  ألف كم2 ” والـ ” 50 ” مليون نسمة، والثروات الهائلة فيها ظاهراً وباطناً ؟؟؟؟!!!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…