علي عيد
“مصير بلد من البلدان يكون رهناً بيوم واحد، لكن التحضير غالباً ما يتطلب سنوات طويلة” ـ نابليون بونابرت
ليس صحيحاً أن دوائر صنع القرار كانت تأمل تغييرا سريعا في سوريا بعد 2011، وإلا لكانت عملية كوماندوز واحدة ينفذها عشرات الجنود قادرة على إخراج بشار الأسد، وتنصيب أي شخص لا يهدد أمن إسرائيل، ويحافظ على المعادلات القائمة ويضمن مصالح ذات الأطراف المعنية بالشأن في سوريا.
كان نظام الأسد متعاونا مع القوى الكبرى، وساهم في صنع الإرهاب حين أرادت تلك القوى، ثم قدم أكثر مما هو مطلوب من تحت الطاولة من ملفات في ذات الشأن، وعندما بدأت استراتيجية الانسحاب الأمريكية من المنطقة وتمدد إيران، بدأ نظام الأسد بالاستثمار لحسابه الشخصي، ثم اضطر لحماية نفسه بعد اندلاع الثورة إلى الاحتماء بمعادلة تتعارض وأسباب وجوده، وهنا بدأ التساؤلات حول ضرورة التغيير، والسؤال الأهم الذي كان يطرحه المعنيون في عواصم كبرى هو: هل يجب تغيير النظام كاملا أم تغيير سلوكه، ويتبين أن استراتيجية تغيير سلوك هذا النظام بقيت ثابتة حتى عندما ارتكب جرائم حرب منها مجزرة الكيماوي عام 2013 وكانت فرصة مواتية لاقتلاعه بآثار سياسية جانبية أقل بكثير مما حصل في غزو العراق والإطاحة بصدام حسين.
لقد كان جرّ حزب الله وإيران إلى القتال هدفا أمريكيا، وكان لا بدّ من تطبيق قاعدة ترك النظام يخوض معركة طويلة الأجل ضدّ شعبه، وتغذية هذه المعركة حتى يتم وضع جميع المتصارعين على النقالة، ومع تدمير بنية جيش النظام، تم استدعاء الروس بعد الإيرانيين، إذ طور المتدخلون استراتيجيات عقّدت المسألة وساهمت في إطالة أمد الحرب، وبعدها يمكن اعتبار دخول تركيا في الشمال قرارا استراتيجيا مدعوما من واشنطن في اللحظة التي شعرت فيها بأن الرهان على توريط إيران وروسيا ربما ينتهي إلى تقاسم نفوذ يهدد أمن إسرائيل على المدى الطويل، واضطرت إسرائيل إلى تعزيز التعاون مع روسيا لتحقيق مصلحة مشتركة بإضعاف إيران في سوريا.
مع اقتراب دخول الحرب في سوريا عامها العاشر يبدو أن الجميع عاجز عن تحقيق الانتصار في نفس ظروف المعادلة القائمة، والانتصار بمفهوم روسيا ليس نفسه بمفهوم الولايات المتحدة، والقاعدة تقول إن “نصف الرغيف أفضل من لا شيء”، وهو ما بدا قناعة لدى موسكو تعززها تصريحات أمريكية كتلك التي عبر عنها المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا “جيمس جيفري” وأعطى خلالها مؤشرات عن رضى بلاده من اتفاق يحقق مصالح روسيا.
وطالما أن موسكو قانعة بعجزها عن السيطرة الكاملة على سوريا في ظل تطوير الولايات المتحدة استراتيجية للضغط والتغيير في سوريا، فالأفضل الذهاب إلى قاعدة “نصف الرغيف” بدل حرب طويلة ومكلفة وليس معروفاً إلى أين ستجر الروس في منطقة يتمتع الأمريكيون فيها بنفوذ واسع وخبرة كبيرة.
تلك المقدمة تمثل تماما التحضيرات التي استمرت طويلا لكي تصل سوريا إلى ساعة الحقيقة، وهي لحظة التغيير المطلوبة، والتي لا تعني انتهاء المعارك السياسية وصراعا النفوذ، وإنما بدء العمل في ظروف مختلفة خصوصا مع بروز ملفات أخرى لا يراد لها أن تكون جزءا من معركة سوريا كما يحصل في ليبيا، إذ يبدو أن قواعد الاشتباك هناك يراد لها أن تكون مختلفة نظرا لأن الأوروبيين لن يقفوا متفرجين على روسيا وهي تطوق حوض المتوسط من سوريا إلى حدود ليبيا مع تونس، وهذا يعني وضع أوروبا بأمنها واقتصادها تحت سكّين القيصر.
إن حرب البيانات حول موقف موسكو من الأسد ليست مجرد دخان بلا نار، وحتى إن حاولت موسكو تجاهلها أو نفيها، فهي واحدة من المؤشرات، وليست أهمها، على أن التغيير قادم، وأن بقاء الوضع على ما هو عليه يمثل تمسكاً بأسباب الاستعصاء والفشل لجميع الأطراف، كما أن اعتبار هدف ما فعلته روسيا في سوريا هو حماية الأسد هو “نكتة ساذجة” تشبه مقولة إن الروس يدخلون المعترك الليبي للحفاظ على “حفتر” كضمانة لاستقرار تلك البلاد.
تبرز أربعة مؤشرات على التغيير في سوريا، وهو تغيير يتعلق برأس النظام أولا قبل بنيته، فما هي تلك المؤشرات:
الموقف الروسي:
مطلع الأسبوع الجاري أصدر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” مرسوما بتعيين سفير موسكو لدى دمشق “ألكسندر يفيموف” مبعوثاً خاصاً للرئيس الروسي، وهو قرار قادم من الأعلى ـ موسكو ـ دون توضيح “بروتكول” هذا التعيين دبلوماسيا، ما يعني أن روسيا تحضر لتغيير يتطلب تحضيرات مكثفة.
سبق هذا التعيين تراشق في الإعلام حول الموقف الروسي من الأسد، كما سبقه تحضيرات في المجتمع المحلي السوري، حيث منعت قيادة “حميميم” معركة حضّرت لها إيران وقوات الأسد في الريف الغربي لدرعا (جنوب وسوريا)، كما قامت وفود من القاعدة العسكرية بإجراء لقاءات مع مجاميع “مسيحية” في الجنوب والشمال في إشارة على ضرورة تقديم تطمينات للأقليات حول أحداث التغيير المقبلة، ومن تلك التطمينات تكليف الفيلق الخامس بإعادة قرية “خربا” التابعة لمحافظة السويداء لأهليها المسيحيين برعاية الحاضنة السنيّة في درعا، متمثلة بقوى مسلحة تعمل تحت إشراف الروس.
ومن المؤشرات أيضاً وجود تناغم بين موسكو وواشنطن حول إحياء عمل اللجنة الدستورية، وسحب الملف من “أستانة” والدفع به إلى “جنيف” والقرار 2254، وظهرت المؤشرات في إحاطة المبعوث الدولي “جير بيدرسون” الأخيرة أمام مجلس الأمن.
قانون قيصر:
تشير التصريحات الأمريكية إلى رغبة حقيقة بتطبيق عقوبات جديدة يتيحها “قانون قيصر” الذي يدخل حيز التنفيذ خلال أيام، وربما يشكل هذا الملف حرجا للكثير من العواصم التي مدّت رأسها للتقارب مع النظام خلال الفترة الأخيرة، لكنها عادت وانكفأت في دلالة على أن الأمريكيين أبلغوا تلك العواصم بأنهم جادّون في تطبيق العقوبات، وهي فرصة لخنق نظام الأسد وحلفائه وشبكات مصالحه خصوصا تلك المرتبطة بعمليات نقل الأموال والتجارة بين سوريا ولبنان.
ثمة توافق أمريكي أوروبي على رفع مستوى العقوبات وليس فقط تمديدها، وربما سيخرج من بروكسل موقف أوروبي للتأكيد على الضغط لإنجاز عملية سياسية بحضور جميع الأطراف بمن فيهم الأتراك والروس نهاية حزيران ـ يونيو القادم خلال مؤتمر “دعم مستقبل سوريا والمنطقة” في نسخته الرابعة.
مع عقوبات جديدة لن يبقى الأمر مرهونا بتأمين فاتورة استيراد الطاقة والمعدات الهندسية، بل بإمكانية تنفيذ صفقات، ما يعني أن النظام سيعاني كثيراً، ولن يكون بمقدور داعميه التعويض مع الأزمة الاقتصادية الحاصلة في العالم، ومع حصار إيران الممول الأهم.
الوضع في إيران:
تحدثت دوائر غربية، وحتى إسرائيل، عن بدء إيران تنفيذ انسحاب جزئي لقواتها من سوريا، لكن هذه الخطوة تبقى مثار الشك، إذ قد تكون العملية مجرد إعادة انتشار مع توقعات بتصعيد الضربات الجوية التي تستهدف مواقعها في سوريا، وكذلك مع تعاظم الشعور بأن الروس ماضون في تمرير التفاهمات مع إسرائيل بإخراج إيران من سوريا، وربما دفع هذا شخصيات من البرلمان للحديث عن ديون مستحقة تصل إلى 30 مليار دولار دفعته إيران في سوريا.
زد على الأمر أن ما يجري داخل نواة النظام يعني أن إعادة تشكيل تجري للنواة التي تتحكم بالقرار داخل النظام منذ تسع سنوات، إذ يجري تحجيم حزب إيران وأذرعها، وحصر استخدامها لقوى مؤثرة في القرار مثل رامي مخلوف كذراع اقتصادي، وماهر الأسد كذراع عسكري.
رؤوس تطلّ من جديد:
خلال الأسبوعين الماضيين ظهرت إلى العلن مواقف لأشخاص غائبين لأسباب مختلفة، منهم قدري جميل الذي يقبع في موسكو، حيث أصدر زعيم حزب “الإرادة الشعبية” بيانا مشتركا مع “حركة التجديد الوطني” التي يتزعمها عبيدة نحاس يدعوان فيه إلى التغيير الجذري في سوريا بناء على القرار 2254.
كما رشحت معلومات، ربما يكون مصدرها إسرائيل، عن قرب تشكيل مجلس عسكري ـ أمني من صلب النظام يتولى التحضير لعملية انتقال سياسي.
وليس بعيدا عن هذا السياق تصريحات من عائلة رفعت الأسد نائب الرئيس الأسبق وشقيق الأسد الأب تشير إلى إمكانية عودته إلى سوريا، للمشاركة في “عملية سياسية شاملة”، وربما يتعلق هذا الأمر برغبة حواضن النظام وجود شخصية مثل رفعت الأسد تجنبا لعدم وضع البيض في سلة واحدة، ورغم أنه لا شيء مؤكد في إمكانية عودة الرجل، لكنها تبقى إشارة مهمة لما يدور في كواليس الحاضنة الاجتماعية التي خرجت منها عائلة الأسد واستخدمتها لعقود.
إذن.. يقترب يوم بشار الأسد الطويل، سواء بمجلس بديل من نفس جسم النظام أو بجسم انتقال عسكري أو مدني أو مختلط يمثل مختلف الأطراف، وليس معروفا بعد ما إذا كان الأسد سيغادر بضمانات من عدة أطراف دولية تحمي أسرته، أم بإذن مرور روسي نحو منفى إجباري.
كنوع من المناورة يتحدث محللون قريبون من الكرملين عن أن الأسد يمكنه الترشح في انتخابات 2021 إذا أبدى مرونة في إيجاد حلّ سياسي وقام بمحاربة الفساد، لكن هذا الاحتمال يفترض أن العملية السياسية والعدالة الانتقالية المطلوبة ستتوقف عند انتزاع الأسد لثروة رامي مخلوف والطلب من إيران الخروج من سوريا، وهذا غير صحيح لأن 2254 يتحدث عن آليات مختلفة.
الأمريكيون وضعوا لأول مرة استراتيجية حول ما يجري في سوريا تقول بضرورة طيّ صفحة الأسد، وهم يرون أن أي عملية سياسية لا يمكن أن تنجح طالما أن الأسد جزء فيها، وبدأت أوساط قريبة من البيت الأبيض الحديث عن استمرار سياسة الضغط حتى من قبل المرشح جو بايدن إذا فاز في الانتخابات نهاية العام، وإذا كان الروس يسعون لوضوح أكثر في علاقتهم مع الأمريكيين غدا، سيكون السؤال: طالما أن بشار الأسد سيبقى مصدرا للصداع، فلماذا لا نقلب الصفحة.
* زمان الوصل