د. ولات ح محمد
لم تدفع كارثة خسارة عفرين أولياء أمور الكورد للجلوس إلى طاولة حوار للاتفاق على سبل عمل تمنع وقوع خسائر مماثلة أو أكبر منها مستقبلاً، بل استمر كل طرف في موقعه السياسي وموقفه من الآخر وراح كل واحد يلقي باللوم والمسؤولية على الآخر ويبرئ نفسه (وكأنها هي القضية) دون أن يفكر في أن استمرار هذه العلاقة السلبية بينهم على هذا النحو سيؤدي إلى خسائر مضاعفة. وعلى الرغم من مساع فرنسية وإنكليزية وأمريكية سابقة بهذا الاتجاه، إضافة إلى الدعوات المحلية الكثيرة من غيورين على هذا الشعب للحوار والاتفاق وتوحيد الخطاب فإن أذن هذا الطرف كانت مسدودة بطين مصالحه الضيقة وأذن ذاك الطرف مسدودة بعجين مصالحه الآنية أيضاً.
هكذا أضاعوا الكثير من الوقت والفرص حتى وقعت الكارثة الكبرى بتعرض كل من تل أبيض ورأس العين للاحتلال وتهجير مئات الآلاف من سكانها الأصليين، دون أن يغير ذلك أيضاً من مواقف ممثلي الكورد الذين استمر كل منهم صامداً في موقفه من الآخر، ودون أن يثير غيرتهم موقفُ المعارضة التركية التي وضعت جانباً كل برامجها المضادة لأردوغان وتوحدت معه داخل البرلمان (بدافع قومي شوفيني بحت) وصوتت معه لصالح قراره بغزو الشمال السوري، وهي (المعارضة) تعلم أن موقفها هذا يصب في مصلحة ذلك الخصم ويقدم له طوق النجاة.
بعد كل تلك الخسائر نتيجة ذلك التشتت الكوردي ظهرت قبل شهور دعوات التقارب وتوحيد الموقف من جديد، مصحوبة هذه المرة بدماء الأبرياء الذين فقدوا حياتهم في تلك الحروب وبصور المدن الرازحة تحت الاحتلال ومعاناة أبنائها كل يوم. إن استرجاع هذه السلسلة من الوقائع المؤلمة في ظل الحوارات الجارية الآن يذكّر المتحاورين بأن مسألة الحوار والاتفاق وتوحيد الخطاب التي يخوضونها اليوم ليست رفاهية ونزهة، بل واجب يجب إنجازه، وأن الناس لن يقبلوا منهم إضاعة المزيد من الوقت والجغرافيا والأرواح، وأنهم أمام خيار وحيد هو النجاح فقط، إذ أن هذه الحوارات جاءت بعد دفع أثمان غالية.
قبل نحو ثلاثين عاماً فرضت قوى العالم حماية دولية لكورد باشور، ولكن أطرافها السياسية لم يقدروا قيمة الفرصة، وسرعان ما دخلت في اقتتال الإخوة المؤسف والمكلف الذي دام سنوات وكاد أن يطيح بكل ما تم إنجازه بدماء الشهداء وعذابات الآخرين، حتى تدخلت واشنطن عبر وزيرة خارجيتها مادلين أولبرايت آنذاك وعقدت بين الأطراف المختلفة مصالحة واتفاقاً تاريخياً غيّر وجه الإقليم نحو الصورة التي نراها اليوم. كيف كان يمكن للكورد عموماً أن يشهدوا اليوم بناء إقليم كوردستان الذي يضاهي بتجربته التنموية والديمقراطية والإدارية الكثير من دول المنطقة لو لم يضع الإخوة آنذاك خلافاتهم جانباً ولم يتصرفوا بحكمة ومسؤولية مع قضية شعبهم ولم يتنازل بعضهم لبعض ولم يتحدثوا مع الآخر بصوت واحد؟.
وجه التشابه بين تجربة باشور آنذاك وروجآفا اليوم هو أن مصير الناس وجغرافيتهم على محك حقيقي ويحتاج إلى أن يتحدث الكورد في هذه البقعة الجغرافية بصوت واحد، لأن الجميع في مركب واحد: ينجون جميعاً أو يغرقون جميعاً. وإذا كانت مادلين أولبرايت (بصفتها الاعتبارية) غير موجودة في هذه الحوارات، فليكن الكوردي هو أولبرايته هذه المرة، وليكن الدافع للحوار والضامن للاتفاق هذه المرة هو فقط إرادة السياسي الكوردي وصدقه وإحساسه بمسؤوليته تجاه الحفاظ على سلامة جغرافيته وسلامة شعبه، كي لا نبدو في عيون العالم كالأطفال المتشاجرين الذين يحتاجون دائماً إلى “كبير” يتدخل بينهم ليحل خلافاتهم ويعقد بينهم مصالحة، ويهددهم بالعقاب إذا عادوا إلى الشجار!!!!. في مثل هكذا مناسبات يدور الحديث دائماً عن “إرادة دولية” لتوحيد الصف الكوردي، ولكن لا أحد يتحدث عن إرادة كوردية، لا وجود لإرادة كوردية، فهل غياب هذه الإرادة بات قدر الكوردي في كل زمان ومكان وعلة دائه المستدام؟!!.
إن وحدة الموقف والكلمة قد لا تكون عصا سحرية لحل كل المشكلات ومواجهة كل التحديات وردع الاعتداءات المحتملة وحفظ المنطقة، ولكن على أقل تقدير سيدرك الكوردي أن من كان يمثله قد فعل ما كان بمقدوره، وسيجد ما يقوله يوماً ما لأولاده وأحفاده على الأقل. وحدة الموقف ستفرض احترام الكوردي على القريب والبعيد وستبرز شخصيته السياسية ووجهه الحضاري وستجعل له كلمة مسموعة وستكبره في مرآة ذاته وتزيد من ثقته بحقه وبقدراته وبشخصيته. ولهذا لم يتوقف أعداؤه منذ مائة عام عن تزويده بسلاح التفرقة والتشتيت وزرع بذور الأنانية في صفوف حركته السياسية، لأنهم يعلمون أنه السلاح الأكثر نجاعة لمن أراد إبادة شعب.
ممثلو الكورد يجتمعون اليوم على إيقاع من جغرافيا محتلة وآلام الناس في عفرين وتل أبيض ورأس العين وخوفهم في مناطق أخرى، وأرواح شباب مقاومة الحجارة الأبطال الذين واجهوا بصدورهم عربات الاحتلال التركي، معاناة اللاجئين والنازحين الفعليين والمحتملين، الأرامل، الثكالى، اليتامى وشهداء الحق. تتوحد أصوات كل أولئك اليوم في صوت واحد يخاطب المتحاورين صارخاً:
إن تمسككم بمواقفكم ومواقعكم السياسية كلٌ ضد الآخر سيقتلنا مراراً وتكراراً وسيقضي على ما تبقى من أهلينا في المنطقة. تخلوا عن مصالحكم الآنية والذاتية، وحّدوا صوتكم، اصرخوا في وجه عدوكم بصوت واحد عظيم يخرق أذنيه ويوقظ كل العالم على مشهد كوردي جديد. وحّدوا كلمتكم كرمى لعيون شعبكم الذي تمثلونه وزفوا له البشرى. واعلموا أن ذلك ـ لو تمّ ـ فسيكتبه التاريخ ويكتبكم في أبهى صفحاته وأبقاها، وسيكون أرقى وأرفع لكم من كل المناصب الزائفة والوهمية التي تتصارعون عليها، وأغنى لأنفسكم من كل الأموال التي تفكرون في جنيها، وأشرف لكم من أي وسام “شرف” قد يضحك به عدوٌ لكم على عقل واحدٍ منكم، وسيكون أجمل من أية كلمة مدح كاذبة قد يهمس بها عدو في أذن أحدكم ثم تضيع مع أبسط ريح تهب من جهته، كما ضاع نصف شعبكم مع عاصفته الهوجاء من قبل.. وقد يضيع النصف الآخر من بعد…