إنهيار الليرة السورية يلتهم الموائد الرمضانيه

نوري بريمو
يَعتبَر السوريون أنفسهم مِنْ أكثر المسلمين إلتزاماً بفريضة الصيام وبمناسك شهر رمضان المبارك، ويشهد الماضي والحاضر بأنّ استعداداتهم لاستقبال طقوسه كانت تبدأ قبل أن يطل هِلالَهُ بأسابيع ملؤها الترقُّب والترحاب، فهم بالعادة كانوا يحضِّرون أنفسهم مادياً ومعنوياً للتأقلم مع الأيام الرمضانية منذ النصف الثاني من شهر شعبان الذي يبشرهم بقدوم الشهر الفضيل، وكانوا يسعون بما ملكتْ أيمانهم أن يتبضّعوا بالمواد الاستهلاكية وبكل ما يحتاجونه من مؤونات غذائية ومآكل ومشارب، وكانوا يتبادولون الزيارات فيما بينهم ويباركون بعضهم البعض في الأيام الأولى من حلول الشهر الكريم. 
وبحسب العادة وكغيرهم من المسلمين يفطر السوريون على التمر والماء والعصير والعرقسوس والتمرهندي والمعروك مثلا، ثم يجتمع أفراد الأسرة والأقارب جمعاً حول موائد إفطار رمضانية مشكّلة ومنوّعة، وفي الماضي كانوا يولون المائدة الرمضانية عناية خاصة بتحضيراتها وبحواضرها من الأغذية والأطعمة والملذات التي كانوا يشتهونها وتخطر ببالهم وتطيب لهم، أما في الحاضر الذي طغت عليه الحروب والفقر والتشرّد وإنقسام البلد إلى مناطق نفوذ منفصلة عن بعضها، فقد إلتغت تلك الموائد التي كانت عامرة وباتت في خبر كان، وتحولت مائدة الإفطار إلى وجبة متواضعة جداً، وصار مسلمو سوريا يستذكرون أيام الخوالي الرمضانية ويتحسّرون عليها وهم يناجون: أيا ليت الزمان يعود يوماً. 
وقد كان رمضان ضيفاً كريماً ومكرّماً وخفيف الظل لدى السوريين فيما مضى، ولكنه صار ثقيل الظل في ظل تردي الأوضاع المعيشية للإنسان السوري المأسور حاليا في خانة ضيقة بين تشبيحات ورشاوي جيش النظام من جهة، وتكبيرات وأتاوات مسلحي المعارضة من جهة ثانية، وتغوُّل غولْ الفقر الذي يقضم قوْته اليومي ويلتهم موائده الرمضانية التي توارثها عن آبائه وأجداده من جهة ثالثة ورابعة وليس أخيرة.  
وفي رمضان هذا العام الذي يترافق مع إنتشار جائحة كورونا وإنهيار الليرة السورية، شَهِدَتْ الأسواق ارتفاعا جنونيا في الأسعار، واضطر المواطنون أن يبذلوا ما بوسعهم لإقتناء حاجياتهم الضرورية لتحضير موائد رمضانية تسدّ رمق وجوع عباد الله الصائمين، لكنّ جهودهم تبوء بالفشل بسبب إنعدام القدرة الشرائية لأرباب العوائل الواقعة تحت خط الفقر، فالسعي وراء لقمة العيش بات صعباً وليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وبقيت موائد السوريين خالية من أبسط مستلزمات وأصناف الأطعمة الرمضانية المعروفة.
أما الشعب الكردي فيُعاني الأمرّين ولسان حاله يقول: أهلا بحلول رمضان وصحيح أنه كريم كما يُقال ولكنّ الجوع كافر والعين بصيرة والأيد قصيرة!، فالكرد بأكثريتهم محرومون من الوظائف الحكومية ولا رواتب ودخل ثابت لديهم ولا توجد مصانع حكومية في مناطقهم وهم من سكان الأرياف ومواسمهم أصابها الجفاف والبطالة سائدة والمديونية متراكمة والأسواق تحولت إلى بازارات سوداء يجري التعامل فيها بالعملة الصعبة، مما أدى ويؤدي إلى تعكير صفوة حياتهم ورمضانهم الذي يمرُّ عليهم ضيفا ثقيلا، خاصة وأنّ فُرَصْ العمل باتت معدومة في ظل الركود المخيِّم بسبب الحجر الصحي الوقائي لمواجهة كورونا.
ولعلّ الشاهد الأكثر دلالة على أنّ الإنهيار المدوّي لليرة السورية قد ألقى بظلاله القاتمة والمُفقِرة على واقع الحال وعلى الموائد الرمضانية لكل السوريين، هو أنّ الأُسرة السورية باتت محرومة ولم يتنعّم أفرادها بأية مائدة شبيهة بالموائد الرمضانية التي سمعنا عن بركاتها الكثير من الكرَم والمَلاحة على ألسنة أهلنا الأولين.
 (6-5-2020)

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…