د. ولات ح محمد
فجر اليوم الاثنين الرابع من مايو أيار 2020 أفلت نجمة أخرى عن سماء الفن الكوردي الأصيل الذي لا تختلف معاناته عن معاناة الكوردي في كل نواحي حياته. سعيد گاباري واحد من مبدعي الجيل الذهبي في الستينيات والسبعينيات (محمد شيخو وشفان برور وجكرخوين وتيريج وغيرهم) الذين قدموا الكثير للفن والشعر الكورديين كما أسهموا في موازاة ذلك في تحفيز وعي الكوردي بذاته وبحقوقه المسلوبة ودفعه للحفاظ على هويته؛ فقد كان أولئك (وغيرهم طبعاً) صوت الكوردي في التعبير عن ذاته في زمن كان إيصال الخبر أو المعلومة أو الفكرة يحتاج إلى جهود جبارة، خصوصاً في الحالة الكوردية التي كانت تفتقر إلى كل وسائط التعبير والتواصل مع الآخر.
رافق گاباري الكثير من مراحل نضال الكوردي في سبيل نيل حقوقه الضائعة. وفي هذا الإطار ترك إرثاً فنياً وثق فيه لبعض تلك المناسبات سيتوارثه جيل عن جيل. ومن أبرز أغانيه في هذا السياق تلك التي رثى بها المناضلة الكوردية الثائرة ليلى قاسم حسن التي اعتقلها النظام العراقي في سبعينيات القرن الماضي وقام بتعذيبها ثم إعدامها شنقاً عام 1974. سعيد گاباري هو الذي جعلنا (ونحن أطفال) نعرف ليلى قاسم ونضالها ووحشية قاتليها آنذاك. هذا مثال واحد وبسيط عن الدور الذي اضطلع به الراحل وغيره في هذا الإطار الذي يجب أن يبقى محل تقدير.
سعيد گاباري تميز بصوت دافئ وعزف ناعم رقيق وروح فكاهية استطاع بها الدخول إلى قلوب الجمهور بيسر. وقد عوض حرمانه من البصر بذاكرة متقدة لحفظ الأسماء والأصوات والتواريخ والأشعار وذكاء لافت وسرعة بديهة؛ ففي أواسط سبعينيات القرن الماضي (وكنت آنذاك طفلاً) جاء سعيد گاباري مع جهازه الموسيقي البسيط إلى قريتنا برفقة أهل العريس ليزفوا إحدى فتيات القرية كانوا خطوبها من قبل. گاباري أخذ مكانه في ساحة القرية كي يقيم حفلاً بسيطاً إلى أن تتم إجراءات زف العروس. أما نحن الأطفال فكنا متحلقين حول الفنان محاولين بفضول استكشافه واستكشاف آلته الموسيقية عن قرب. وعندما صار جاهزاً للغناء قال له أحد شباب القرية: يا سعيد من فضلك غنِّ لنا أغنية قومية. فرفع الشاب الضرير رأسه ونظر باتجاه السماء (وهي أساساً طبيعة الضرير عندما يتكلم) وقال: “والله يا أخي كان بودي ذلك، ولكن ـ كما ترى ـ السماء ملبدة بالغيوم”.
مضت سنوات طويلة بعد ذلك اليوم قبل أن أدرك علاقة غيوم السماء بامتناع گاباري عن غناء أغنية قومية في تلك اللحظة: يبدو أنهم كانوا قد همسوا في أذنه أن عناصر من شرطة مخفر القرية المجاورة قد وصلوا إلى المكان. وكانت تلك العناصر هي الغيوم التي أشار إليها گاباري في اعتذاره.
الراحل سعيد گاباري وأمثاله نحتوا في الصخر وواجهوا غيوماً وأنهاراً وجبالاً ورعوداً وبروقاً وسيولاً كثيرة كانت تعيقهم عن القول والعمل وتودي بهم إلى المعتقلات وقطع الأرزاق عنهم وعن عائلاتهم. عمل ذلك الجيل في ظروف صعبة وخطيرة وبإمكانات متواضعة جداً، ولكن بقلوب نقية وبإخلاص. إنهم يستحقون منا وممن سيأتي بعدنا كل التقدير والاحترام. اليوم امتلأت السماء بالغيوم، فغاب نجم أضاء تلك السماء لسنوات طويلة .. غاب سعيد گاباري.