محمد صالح عبدو (*)
ظن معظم الناس أن زمن الأوبئة قد ولى، وأن الكوليرا والجدري والطاعون قد أصبحت من الماضي، غير أن انفلونزا الطيور، ثم الخنازير شكلت مؤشرات هامة على أن البشرية لازالت تواجه خطر تلك الأوبئة، وأنه يجب الاحتياط، وأن الإيبولا وغيرها ليست أوبئة محلية فقط، وأن كل ذلك كان يجب أن يوحي على الأقل للحكومات والعلماء بضرورة أخذ الاحتياطات الضرورية لمواجهتها والقضاء عليها في مهدها.
ولكن وباء كورونا قد كشف الكثير من العيوب والخلل ليس فقط في النظام الصحي العالمي الذي ثبت ضعف بنيته، وإنما الضعف في المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام الدولي الجديد، لقد وقفت الدول الكبيرة عاجزة تماماً عن التصدي لهذا الفايروس، ويموت الآن الآلاف من سكانها به، والذي أصبح وحشاً يقض أمنها وأمن العالم أجمع، ومما يساعد على ازدياد خطورة هذا الوباء هو أن الدول لا تعيش الآن في جزر منفصلة، وإنما هي دول ومجتمعات تتفاعل مع بعضها في شتى مجالات الحياة، وأصبح العالم كما يقولون قرية صغيرة ليس فقط لجهة وسائل الاتصال والإعلام، وإنما أيضاً لجهة ترابط المصالح والانتقال البشري بين أحيائها، والحدود المفتوحة لرؤوس الأموال والاستثمارات.
لن نناقش نظريات المؤامرات التي تنتشر بسرعة وبشكل واسع، وتقدم الحجج والدلائل عليها باعتبارها من فعل دول كبرى، وتهدف إلى الإيقاع بالخصوم أو التخلص من أعمار /65/ سنة وما فوق، أو تأكيداً لنظرية مالتوس بخصوص زيادة عدد السكان، أو بعض المسؤولين في النظام الدولي الجديد الذين يهدفون إلى وقف ازدياد عدد السكان إما عن طريق الحروب أو عن طريق نشر الأوبئة لإطلاق عجلة الاقتصاد الرأسمالي، والحصول على المزيد من الأرباح، لأنها معروفة من قبل أوسع أوساط المثقفين والسياسيين، ولكننا سنركز على آثار تفشي وباء كورونا لأنها مسألة راهنة بقوة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
لقد أصبح الشغل الشاغل اليوم لكل الناس، للحكومات ولوسائل الإعلام، للسياسيين والاقتصاديين ولكافة العلماء هو كيفية التصدي لوباء كورونا الذي يهدد البشرية والقضاء عليه، ونأمل أن تتجاوز جهودهم واهتماماتهم مسألة إيجاد لقاح أو دواء له إلى مسألة الوقوف الجدي أمام معاناة البشرية جمعاء من كل أشكال العسف والفقر والجهل والمرض والاستغلال، لأن كل واحدة من هذه المشاكل تولد المشاكل الأخرى، وتطيل سلسلة المعاناة، وتصبح البشرية أمام خطر داهم دائم.
أول ما لفت انتباه الجميع هو أن كل الدول الكبرى والغنية كالولايات المتحدة والدول الأوروبية وغيرها لم تكن تمتلك الأدوات والأجهزة الطبية مثل المنافس والكمامات، بل وحتى المعقمات الكافية لمواجهة فايروس كورونا، بل ولم تكن مستعدة حتى لاستقبال المرضى في المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة باستقبال مرضى مثل هذه الحالات، بل أنها كانت تفتقر إلى الكثير من المراكز الصحية، وأظهر وباء كورونا أيضاً ضعف تنظيم الشعب في النظام الرأسمالي بتوجهه الليبرالي والنيوليبرالي، أظهرت هذه التجربة أن الأنظمة الليبرالية التي تهتم في المقدمة بالحريات الفردية تجد صعوبة بالغة في تنظيم شعوبها في مكافحة فايروس كورونا والأوبئة والكوارث المشابهة، إنما استطاع الصينيون تحقيق حظر التجوال في مناطق يزيد عدد سكانها عن /50/ مليوناً من البشر، وتنظيم إيصال الخدمات لهم بما في ذلك الطعام والخدمات الطبية، وبناء مستشفى ضخم خلال عشر أيام، فيما لم تستطع الولايات المتحدة وعموم أوروبا تنظيم شعوبها لمواجهة هذا الوباء، وأكثر من هذا فقد ظهرت في الغرب ميول أخرى لدى بعض الأوساط مفادها طالما أن كورونا يستهدف في الغالب الفئات العمرية الكبيرة فليذهبوا إلى الجحيم، وليس في ذلك أية مشكلة، بل أن الاقتصاد سيستفيد من ذلك بتوفير مبالغ المعاشات التقاعدية مما يساهم في نموه بدرجة أكبر، وقد أظهر شريط فيديو من إيطاليا كيف أن المستشفيات كانت تحصر أجهزة التنفس بالمرضى ذوي الأعمار المنخفضة بحجة ندرتها، وكانت تنتزع من المرضى من ذوي عمر /65/ سنة وما فوق وتركهم لمصيرهم، وهو ما يؤكد على بؤس المنظومة الأخلاقية في الأنظمة الرأسمالية.
رأس المال يتوجه إلى القطاعات التي تحقق الربح الأكبر، وطالما أن الأوبئة لم تكن متوقعة فإن صحة الشعوب لا تحظى بالأولوية، وتحجم الرساميل عن التوجه إليها. لقد كان بإمكان الولايات المتحدة لو أرادت تأمين جميع مستلزمات مواجهة وباء كورونا لجميع البشرية في مدة قصيرة، ولكن ذلك ليس من أولويات الاقتصاد الأمريكي، علماً أن أمريكا فقدت أرواح عشرات الآلاف من مواطنيها، وهكذا الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم.
يدور الآن الكثير من النقاش حول مرحلة ما بعد كورونا، أي بعد أن ينتهي هذا الوباء وتأثيراته على الدول والمجتمعات، بل وعلى الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع أن ملامح تلك المرحلة ليست واضحة وتحتاج إلى نقاش واسع، إلا أننا نعتقد أنه لا يمكن لهذه الحالة أن تمر مرور الكرام، وكأن شيئاً لم يكن.
البعض يعتقد بأن العالم سيلعق جراحه، وسيبقى حال الدول والمجتمعات كما كان بحجة أن ما جرى كانت كارثة إنسانية غير متوقعة، وقد مضت إلى غير رجعة، غير أن البعض الآخر يعتقد بحدوث بعض المتغيرات ولو غير العميقة.
من جهتنا نعتقد بأن الأرواح التي أزهقت بالآلاف حتى الآن، ونأمل أن لا تطول القائمة، وكذلك الخوف والهلع الذي ألم بالبشرية، وتريليونات الدولارات من الخسائر التي لحقت بالعالم ستكون لها آثار كبيرة على العالم، وبداية فإن قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي ستدخل في برامج الأحزاب في الانتخابات بقوة أكبر على مستوى العالم، وإذا كان الضمان الصحي في الولايات المتحدة هو مثار خلاف كبير في برامج الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فإن توجهات الشعب ستذهب باتجاه البرامج التي تطرح الضمان الصحي والنفقات الاجتماعية والتعليم في برامجها بشكل أوضح، لن تكون التغييرات بمعنى حدوث ثورات اجتماعية، وإنما ستكون هناك تغييرات تطال بعض البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتخفيف حدة التوحش الرأسمالي، إضافة إلى أن كل ذلك سيزود القوى اليسارية والحركات الاجتماعية وحركات السلام والخضر والبيئة بسلاح جديد ضد وحشية الرأسمالية وضد التوجهات المتطرفة الرامية إلى السيطرة على العالم والتحكم بمصيره، كما أظهر الوباء الحاجة الملحة إلى التعاون الدولي في الكثير من المجالات، وفي مقدمتها مجالات الصحة والبيئة وفي مجالات البحوث العلمية.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي زال النظام العالمي الثنائي القطب، وأصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم، فقد حاولت ولاتزال بكل قوة أن تبقى القطب الأوحد، وأن لا تفسح المجال لغيرها من القوى الصاعدة، غير أن الوقائع والأحداث تقول شيئاً آخر، فمنذ ذلك الوقت جرت كثير من المياه في الأنهار، وجرت كثير من التغييرات على الصعيد العالمي، إذ منذ مدة طويلة تعمل الصين بهدوء من أجل تغيير هذه القاعدة، وفي الواقع فإن كثيراً من الوقائع والأحداث وتصورات جميع المراقبين تشير إلى أن الصين قد أصبحت قوة اقتصادية مكافئة للولايات المتحدة، بل أنها ستتجاوزها في وقت قريب. الولايات المتحدة هي أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، غير أن التنين الصيني يلاحقها، وتعمل بهمة من أجل حفظ دور لها على الصعيد العالمي.
وإزاء كل هذه الأحداث والتطورات فإن التغيير المرتقب في الأوضاع الدولية بعد أن هزها فايروس كورونا بقوة هو كسر نظام القطب الأوحد المهيمن للولايات المتحدة، وتشكل عالم جديد متعدد الأقطاب، ونعتقد أيضاً أن أوروبا بعد هذه الهزة العنيفة ستكون أمام خيارين، فإما أن تقبل بالواقع الحالي وتفقد دورها، أو أن تنتهج سياسة جديدة وتصبح قوة أكبر، وتتجاوز دور القارة العجوز، وتحتفظ بدور عالمي جديد، وتنضم لهذا السباق أيضاً كل من الهند والبرازيل كلاعبين جديدين، وأما دول العالم الأخرى، وبخاصة دول آسيا وأفريقيا وأرميكا اللاتينية حيث أوضاعها الداخلية في غليان، فتصبح بالكثير من الصعوبات والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فعليها أن تنكب على حل مشاكلها وتتضامن مع بعضها لأن العالم الكبير والعالم الجديد على الأبواب، وفي هذا الإطار أيضاً فإن ظهور تحالفات وتجمعات جديدة يطرح نفسه بقوة، فالمستقبل للتكتلات الكبيرة.
(*)عضو المكتب السياسي للحزب اليساري الكردي في سوريا.