إبراهيم اليوسف
إلى كسرى جكرخوين وهفال خليل إبراهيم وإقبال عبدالفتاح
ظللت إلى وقت طويل أرى أن الموت واحد، وإن كانت له درجاته التي تختلف من الميتة العادية، عن الموت في سبيل قضية ما، أو الموت في سبيل هدف مشين، وهي درجات دأبنا أن نتلقاها، بموجب ثقافتنا التي تربينا عليها، بيد أن كل ذلك لم يمنع من أن تكون للموت رهبته، وأستطيع أن أقول: قدسيته المستمدة من الأرواح الطاهرة، حسب تقويماتنا، مختلفة المعايير، وإن كنا نسمع أن وقع فعل الموت في بلدان وأمكنة أخرى، أقل اهتماماً، وهوما زلت لا أصدقه، بعد حوالي عقد ونيف من غربتي، وتنقلي في بلدان عديدة، وهي تجربة جد متواضعة. ثمة ألم الفقد الذي يعاني ذوو ومقربو كل راحل، كما أنه لا امرأ أية كانت لغته، ولونه، ووطنه، إلا وكان الموت عالماً مرعباً، حتى بالنسبة إلى هؤلاء الذين قد يلجؤون إليه، إذ أراهم مدفوعين إلى ذلك تحت وطأة الخوف منه. من واقعهم، للوصول إلى واقع لا موت فيه، وهوما ينطبق على المؤمن والملحد، في آن واحد!
سمعت سيدة سورية، قبل أن يغدو الحجر الصحي الطوعي أمراً واقعاً، تقول: “لقد هربنا من الموت، وها هو موت أمرُّ أمامنا، يجعلنا نتحسر على موت بلادنا”. ما قالته هذه السيدة استوقفني كثيراً، وإن رحت أقلب أثره وصداه في ذاتي، من وجهات نظر نقدية ذاتية، متعددة، إذ إنه أعاد بي إلى التفكير برهبة الموت المضاعفة ، بعيد بدء الحرب على السوريين: من الجهات جميعاً، عندما انقطع أمل ذوي أي فقيد يقضي في الغربة، من إيصال جسده- ولا أقول “جثمانه” إلى وطنه، ليوارى فيه الثرى، وهوما كنت أشدِّد عليه، أستحثُّ ذوي أي فقيد للسعي لدفنه في الوطن.
ثمة عقدة تشكلت لي، منذ أن كنت في الوطن، إذ كلما سمعت أن أحداً ممن أعرفهم قد توفي في أحد المهاجر، حتى كنت أحدث ذويه. أطالبهم. أكاتبهم، بضرورة دفنه في الوطن، وفعلت ذلك مع أسرة المربي والكاتب أحمد حسين الذي توفي في إحدى مدن ألمانيا في إيسن- وللمصادفة إنها المدينة التي أسكنها الآن- إلا أن محاولتي تلك لم تجد- وكتبت عن ذلك في أحد المواقع الإلكترونية الكردية حينذاك- وقد تحقق لي- لاحقاً- بعد أن هاجرت أن أزور المقبرة التي توفي فيها، وألقي التحية والسلام على ضريحه هناك!
أتذكر، عندما توفيت، في الإمارات، زوجة صديق عزيز، وهي من أسرة صديقة عزيزة، جاء ذلك بعد أقلّ من شهر من تلبيتنا لدعوة أسرتها لزيارة بيتهم، وكنا نخطط لمعرض فني للزوجة التي اتصلت بي وأنا أعمل في جريدة الخليج، أنا في المشفى الفلاني في “دبي” أعلم أهلي وقل لهم كذا وكذاً. لم أفكر، ولعلَّ المريضة نفسها لم تفكر أن أياماً جدّ قليلة تنتظرها، وسيتوقف قلبها عن النبض، وأكون أحد الذين يسيرون في موكب جنازتها إلى مثواها الأخير، في إحدى المقابر هناك في الغربة، بعد أن ألححت في التفكير عن حل آخر، لدفن تلك السيدة التي كانت بمثابة أخت حقيقية لي.
وإذا كانت هناك ثمة حلول لاختراق زمن الحرب، عندما تكون ضمن جغرافيا محددة، فإن أول تحدٍّ دولي من نوعه بات يواجه العالم، مع مرض كورونا- كوفيد19، إذ تعطلت حركة المطارات وبات يتم الحجر حتى على الركاب الذين يصلون بعض البلدان، إلى أن يمضوا مدة أربعة عشر يوماً، ولعلنا استشعرنا بالألم الكبير مع وفاة نجل مرب وسياسي كردي- كان أستاذي في الصف العاشر وكتبت عنه وعمن درسوني في أحد كتبي- ألا وهو: خليل إبراهيم، إذ اتصلنا بالأسرة للمشاركة في تشييع جنازة نجلها إلى مثواه الأخير، بعد انغلاق الآفاق أمامها في نقل جسده إلى الوطن، فكان الرد:
نقدر مشاعركم عالياً ولكن لا يسمح إلا لقلة من أهله بالمشاركة في موكب جنازته، ولربما يتم الحجر علينا إن زاد العدد، وهكذا تم دفنه في مقبرة ضمن الولاية التي نقيم فيها، من دون أن تتم إقامة مجلس عزاء رسمي للشاب الفقيد هفال: الأربعيني، وهو ما جعل حالة الحزن تتفاقم لدى الأسرة ومقربيها ومحبيها وأعدني منهم!
ثاني الصدمات، كان قبل أيام، برحيل الصديق كسرى جكرخوين الذي كان بيننا تجربة نمت عن أصالته، إذ كان أول من تفاعل مع نبأ إطلاق جائزة والده الشاعر الكبير جكرخوين، وبات يهنئنا في كل محطة من محطات الجائزة، ويعلن موقفه، عالياً، ممن حاولوا التشويش عليها، نتيجة دأبهم على التهام جهود سواهم، بغرض الصعود، كيفما كان!
إذ لاتزال جنازة الراحل كيو في أحد المستشفيات السويدية، ولا أحد يعرف كيف يكون التصرف معها: هل سيسمح لذويه بالانتظار لنقلها إلى الوطن ودفنها إلى جوار أبيه، في منزله في الحي الغربي؟، أم سيتم دفنها هناك، وسط حالة الحجر السويدي الطارئ؟ . وتظل أسئلة كثيرة: إذ رافع الحجر عن الجنازة فكيف يتم نقلها إلى مسقط رأس الراحل؟
وبينما أكتب هذا المقال، تحت وطأة الحزن، وردنا نبأ رحيل إقبال عبدالفتاح. النجل البكر للأديب الكردي المعروف دحام عبدالفتاح، في هولندا، وقد كان إقبال مشروع كاتب مبدع، لولا أن عواصف الحياة نالت منه، في وقت مبكر من حياته، وهو صاحب الموقف، منذ نعومة أظافره الذي دفع سنوات ربيع حياته في سجون الاستبداد، قبل أن يضطر للهجرة إلى لبنان، ومن ثم إلى أوربا في رحلة أليمة، ولعل مايقال عن جنازتي كيو جكرخوين، وهفال خليل يقال عن جنازته، باعتبار العالم كله يعيش حالة حجر صحي، ضمن سجن كوني كبير، وضيق!
أجل، إنه الموت في زمن ال”كورونا”. إنه الموت المضاعف. الموت عشر مرات، أو مئة مرة، لاسيما عندما لا يتاح للأهل بإقامة مجلس عزاء رسمي لفقيدهم، حيث في مثل هذه المجالس ما يخفف من وطأة الحزن والألم على ذوي الفقيد، كما هو حال طقوسنا الشرقية. طقوسنا الكردية، بعد أن أعلنت أسر هؤلاء الثلاثة: نكتفي بتلقي العزاء عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي!!!