ماجد ع محمد
“إن مسار المجتمع سيتغيّر فقط عن طريق تغيير الأفكار
هذه الأفكار يطرحها المتنورون ومن بعدها يتبعها السياسيون”
فون هايك
مثلما على الآخرين وجوب التفكير بأنهم ليسوا أحراراً في أن ينقلوا إلى الغير الفيروسات التي اجتمعت لديهم عمداً أو مصادفةً، فنحن كذلك لسنا بأحرار في نشر العدوى وإيصال عللنا إلى الآخرين؛ على كل حال فبما أن مواضيع الحرية تتلاقى في أكثر من مكان وزمان ومناسبة، لذا سأدع الحديث عن الحرية في نقل عدوى المرض الذي يُشغل البشرية جمعاء هذه الأوقات وأنتقل إلى حيّزٍ آخر من فضاءات الحرية، وذلك لئلا أُعيد ما يكرره آلاف الأشخاص عن ذلك الفيروس.
وأذكر بأنه سبق لي أن نشرت ههنا في هذا الموقع مادة تحت عنوان “الملوحين بأندروير الحرية” ونويت وقتها كتابة جزء ثاني متمم للمادة الأولى، ولكن ضغوطات العمل، وكثرة المواضيع الهامة التي تفرض نفسها وتأخذ مكان غيرها، وفوقها إنهمار الإشكاليات اليومية، وعدم وجود البَركة بالوقت في البقعة الجغرافية التي التجأتُ إليها، إضافة إلى مزاحمة الأفكار بعضها بعضا حال دون إلحاق الجزء الثاني بالأول، وحيث أن كل تلك الأسباب مجتمعةً كانت وراء الإبقاء على فكرة المقالة في زاوية نائية من زوايا الذاكرة، إلاّ أن الخشية من تلاشيها الأبدي دعتني لاستحضار بعض ما تبقى منها، وبدأتُ من جديد برتق أشلائها بعد أن أخذت نصيبها من الإهمال.
إذ كما أن الكثير من العوام الذين ركبوا موجة الثورة في سوريا، لم تكن غايتهم من ثورة الحرية الوصولَ إلى شيء من الديمقراطية أو الكرامة أو العدالة، إنما كل غرضهم من الحرية كان بهدف الخروج عن قواعد الأصول والمعايير القيمية، وتجاوز الأعراف والتقاليد الحميدة في المجتمع، وارتكاب كل الموبقات بعيداً عن المساءلة والتي لما كان سيُسمح لهم بارتكبها لو كان البلد في وضع صحي وقانوني آمن، وحيث أن كل غايتهم وفهمهم للحرية هو أن يقضوا الأيام بدون أي رادع قانوني أو ديني أو أخلاقي، فينتعشوا حتى الثمالة في ظل تفشي الجريمة والفساد وسيادة الفوضى والفلتان؛ كذلك الأمر هو حال بعض مَن يعتبرون أنفسهم من النخبة وليس العوام حيال موضوع الحرية والغرض منها.
حيث ظهر بأن فئة لا بأس بها من جماعة الفنون والكتابة وضعت أحمالها في مرابع الغرائز، واختزلت مفهوم الحرية في الأعضاء التناسلية، كما أنها لم تكتفي بالتطفل على كل المنجزات الحضارية للغرب علمياً وتكنولوجياً وفكرياً وفنياً فحسب، إنما تطفلت من فرط الكسل وهوس الاستجلاب حتى على سلوكيات الآخر من جهة الحاجات الغريزية البديهية، والتي لا تستدعي أصلاً الاستيراد بكونها موجودة في الطبيعة البشرية أينما كان المرء في هذا العالم، وبالتالي حصر واحدهم الوجود البشري برمته في موضوع الجِماعِ، كأي كائن مستسلم لحاجاته الجسدية بدون أي تحكم أو إرشاد أو ضبط، بحيث يبدو عليه وكأنه غير معني بتاتاً بالغد أو المستقبل الشخصي أو العائلي أو المجتمعي، هذا عدا عن رفضه القيام بأيّة مساهمةٍ حضارية حقيقية في صناعة شيء معنوي أو مادي في حياته من خلال لجم بعض الشهوات الشخصية، باعتبار أن مرتكزات الإبداع عند فرويد تقوم على كبت عدد من الدوافع الأولية أو الارتقاء بها، مثل غرائز الجنس أو العدوان على المحرمات.
كما نقرأ في صيرورة حياة بعض الأوادم في مرابعنا أن الحرية الفردية لديهم كامنة في التخلص النهائي من الأهل والأقارب والمعارف والمحيط الاجتماعي، مع محاولة إقناع الآخرين بتلك السرديات التي يحفظونها عن ظهر قلب، وحيال ذلك فبرأينا المتواضع أن هكذا نماذج بدلاً من أن تتعب نفسها في إثبات وجهات نظرها من خلال التعويل على عشرات الأقوال العائدة لبعض الكتاب والمفكرين، أن يذهبوا مباشرة إلى أقرب عاهرٍ أو عاهرة في المجتمع، لأنهم بتصورنا أكثر الفئات التي حقّقت شروط الحرية الشخصية كاملةً في بلادنا وربما في العالم كله، بما أن ذلك التصرف سيتوافق تماماً مع رؤاهم، بما أنه وفق علم النفس أن اهتمامات الأفراد تعكس قيمهم، واهتمامات الفرد تؤدي إلى احتضان قيم ودوافع معينة دون غيرها.
إذ ترك بعض مثقفينا موضوع أهمية عمل المرأة وعدم اهتمامهم بافهام المرأة بأنها شريكة في بناء الأسرة، وأن عليها أن تفكر بمستقبل الأولاد كما يفكر الرجل، وأن يكون لها هدف سامي في الحياة غير قصة تلبية حاجاتها اليومية، وأنها نصف المجتمع في عملية البناء والإعمار واتخاذ القرارات كما الرجل، وأن رأسمالها ليس فقط الشكل الخارجي والتضاريس إنما ينبغي العمل على إفهامها بأنها صاحبة رأي وموقف، وعليها بالتالي مسؤوليات كبرى تتعلق بتنشئة الأطفال وإعدادهم أفضل إعداد، بما أنها ملعونة تلك الأمة التي أهملت أطفالها كما يقول نيتشة “ويل لامة فسدت منابت اطفالها”، وأن عليها بالتالي بدلاً من التيه في غياهب المظهر والتضاريس أن ترسم الخطط والسياسات كما الرجل بالضبط، وليس ترك كل ذلك والتركيز فقط على عريها والتفكير المتواصل بالتخلص من أسمال المجتمع.
وللتخلص مِن العُقد المرضية لهذه الفئة المجتمعية نرى بأنه من باب الاختزال وتوفير الوقت الذي يقضونه في خلق النظريات وترويجها بين العامة، من الأفضل لهم العمل كمرافقين لراقصات التعري في البارات الليلية، وذلك حتى يتخلص المجتمع من اطروحاتهم ومن هواجسهم الجنسية، لا لشيء إنما لكي لا يُختزل مفهوم الحرية في الأعضاء التناسلية للرجال والإناث كما يحاول أن يفعل هؤلاء المدافعون عن الظواهر الشبقية والتلويح بعري الحرية بمناسبة ودونها.
وحيال ذلك ربما على المرأة التي ترى وتلاحظ بأن الذكور الذين يتواصلون معها، لا يكون موضوع تواصلهم معها إلا فيَّ الحديث عن الإعجاب بجمالها الآخاذ، ورموشها القتالة، ونظراتها الحارقة الخارقة، لذلك يسعون جاهدين للتقرب من جسدها، فعليها في لحظة تفكيرٍ عميق أن تعرف جيداً بأنها قريبة جداً من حال بائعة الهوى المثيرة التي يسعى قطيع الذكور للوصول إليها إلى حين تلبيتها لغرائزهم الوقتية، وأن تعي تماماً بأنها ستكون موضع التفاهة والاستحقار في عيون هؤلاء الذكور أنفسهم فور حصولهم على نيل وطرهم منها، أو حتى عقب فشل وصول أحدهم إليها بعد بضع جولاتٍ من محاولات التقرب والتودد إليها.
وبخصوص تلويح الرجل لديباجة الحرية ليل نهار في حضرة النساء، أو قِبال امرأةٍ ما بعينها، عساهُ يلتقط بكلاليبه المرمية في ميادينهن ما يتوافق مع الغايات المابعدية لتلك الجلسة الإطرائية، فلا شك أن ذلك المديح الممجوج لن يضيف على الأنثى شيئاً، إنما يُظهر بكل وضوح مدى خنوع الرجل وتفاهة مرامية أمام جبروت النزوات، ولا شك أنه عندما يكون الهدف الاستراتيجي من الحرية الفردية هو إطلاق الغرائز والتخلص نهائياً من القيم البشرية برمتها، فوقتها يكون اقتداء هذه النماذج الذكورية بعالم البهائم أبدى من حصولهم على المعارف من عالم الأوادم، وذلك لغنى تجربة الحرية عند الحيوانات، وفوقها عدم دخول الحرية المصطنعة إلى ميادين البهائم، وبالتالي ضمان ذلك الفرد لحالة الخضوع الكلي لشروط الطبيعة كما هي من غير تكلف.