صلاح بدرالدين
في الثقافات الشرقية، بجانبها الاجتماعي، وبكل مايستأثر به الأخ الأصغر من دلال وميزات، يبقى الأولى بحكم الواجب، بخدمة من هو أكبر منه عمرا في العائلة، وفي حالتنا الكردية السورية – ومن سوء الحظ -، تجسد هذا العرف والتقليد في الحياة السياسية أيضا، حيث يعتبر الكرد السورييون الجزء الأصغر جغرافيا وبشريا، ومن واجبه أن يكون مطواعا وفي خدمة الأشقاء الثلاثة الآخرين (والأصح الشقيقان الآخران المتنافسان على موقع الأخ الأكبر) بالشمال والجنوب، والا سيكون مصيره الطرد من العائلة والتعرض لشتى أنواع الإدانة .
وفي الحالة هذه ليس بالضرورة أن يكون الأخ الأصغر (الكرد السورييون) الأقل وعيا، أو بدون تاريخ وأمجاد، حتى يعامل بدونية واستصغار، والتعامل معه كمجرد تابع وفرع،أو متعهد خدمات، في العلاقات الكردستانية كما هو الحال عليه منذ اعلان الفدرالية بكردستان العراق والانتقال من مرحلة الثورة الى مرحلة استلام السلطة، وظهور – ب ك ك –منذ الثمانينات بكردستان تركيا وحتى الآن، ولاشك أن هناك اختلاف كبير بين مسارات ومضامين المشهدين، سنأتي على تفاصيلها لاحقا .
في كلتا الحالتين بالشمال والجنوب، هناك حدود مشتركة، وعلاقات اجتماعية وإنسانية، وعائلات تربطها أواصر القربى في الجوانب الثلاثة من الحدود التي رسمت في العصر الحديث، ويكاد يمر عليها قرن من الزمن أي نحو جيلين في أكثر تقدير، وفي المسألة السياسية والرابطة القومية، تجاوز الأخ الأصغر حجمه العددي، وأذهل القريب والبعيد، حيث كان لكرد سوريا دور في نشر تنظيمات حركة – خويبون – القومية في العديد من مناطق كردستان العراق بما فيها بارزان والسليمانية قبل ظهور (الحزب الديموقراطي الكردستاني بالعراق)، وفي وقت لاحق ساهمت الحركة الكردية في العراق في بناء أول حزب كردي سوري عام ١٩٥٧ (الحزب الديموقراطي الكردستاني – سوريا)، ووقف الكرد السورييون الى جانب ثورة أيلول وقائدها البارزاني الخالد، وقدموا الدعم البشري والمادي والسياسي دون حساب .
كونهم الأخ الأصغر لم يمنع مساهمة الكرد السوريين في بناء وتطوير المنظمات السياسية بكردستان تركيا، من أحزاب وجمعيات، منذ الستينات، وقدموا لها كل وسائل الاستمرارية والنهوض بمافي ذلك الاشراف على دورات تدريبية عسكرية وسياسية لكوادرها في لبنان، ونسج وتعزيز علاقاتها الكردية والعربية والاممية، ومايتعلق الامر ب – ب ك ك –، فلم تكن هناك أية علاقة سياسية لأي طرف كردي سوري معه، والذي ظهر زعيمه – عبد الله اوجلان – لدى عائلة الأسد، واستخدم سوريا لاعوام منطلقا في حربه ضد تركيا مقابل ثمن باهظ وهو التبعية لنظام الأسد، الذي كان يعادي بالوقت ذاته كرد سوريا، ويضطهدهم ويطبق بحقهم المشاريع العنصرية، ورغم كل ذلك تطوع الآلاف من الشباب الكردي السوري خصوصا من الاعمار مادون الثامنة عشر في صفوف حزب اوجلان، قسم بدفع من الحماس الذاتي العفوي، والقسم الأكبر بسبب تشجيع الدولة السورية خصوصا بعض الشرائح المتعلمة .
وبالمحصلة، وبعد عقود من الاحداث والتطورات المحلية والإقليمية والدولية، وبعد تحولات كبرى في القضية الكردية، وتبدل الأنظمة والحكومات في البلدان التي تقتسم الكرد وموطنهم التاريخي، وبعد التغييرات الهائلة في حركات التحرر بالمنطقة والعالم، وقيام فدرالية إقليم كردستان العراق عقب انتفاضة التسعينات، وبعد استيلاء مسلحي – ب ك ك – على مناطق كردية سورية على قاعدة اتفاقية (آصف شوكت – مراد قرايلان)، وإقامة سلطة الامر الواقع، بعد كل ذلك ماذا كانت النتائج على مصير الكرد السوريين – الأخ الاصغر – وحركتهم ؟ .
فقد توافق أصحاب القرار على الصعيد الإقليمي، وخصوصا ايران وسوريا والعراق، وبموافقة ضمنية من أطراف أخرى محلية وخارجية على استحضار – ب ك ك – ومسلحيه الى الساحة السورية ابان اندلاع الانتفاضة الوطنية السورية، لاداء وظيفة محددة من ضمنها تحقيق رغبة – أوجلان – بافراغ المناطق الكردية وتهجير سكانها الى موطنهم الأصلي !!، والتحكم بمصير من يبقى واستثمارهم في خدمة أجندات محور الممانعة، أو لمن يدفع أكثر من أمريكان، أو نظام الأسد، وتثبيت حدود (ب ك ك لاند)، وعزل الكرد السوريين عن الحركة الديموقراطية والثورة والمعارضة، وتحويل القضية الكردية السورية الى مجرد نزاع مع تركيا وإقليم كردستان العراق، وتناسي العدو الرئيسي أي نظام الأسد، وفي الجانب السياسي إزالة كل آثار تاريخ الحركة الكردية السورية وتقاليدها ورموزها وكفاحها خلال نحو قرن من الزمان، والتعويض عنها بفرض آيديولوجيا – مهزلة الامة الديموقراطية المبنية على العنف وإلغاء المختلف وبالنهاية تحجيم كرد سوريا وإلغاء وجودهم ودورهم واذلالهم بتنصيب عدد من (الكادرو) الجاهلين لقيادتهم وتمثيلهم .
طريقة تعامل الاشقاء في كردستان العراق منذ مرحلة قيادة البارزاني الخالد مع الكرد السوريين – الأخ الأصغر – كانت على قاعدة الاحترام، واذا كان قد اعتراها بعض الخلل لاحقا فمرده تصرفات قيادات الأحزاب الخاطئة، ومن ضمنها قيادة (البارتي الديموقراطي الكردستاني – العراق)، التي انطلقت بمجموعها من الرؤا الحزبية الضيقة، وليس من مفهوم – الكردايتي –، فهناك اعتقاد خاطئ لدى القيادات الحزبية في كردستان العراق باعتبار أحزاب معينة فروعا لها، والتعامل من ثم معها على أساس التابع للاصل، وفي غياب أية صيغة تنظم العلاقات القومية تظهر الاجتهادات الفردية، ويلعب المزاج الشخصي الدور الأكبر .
في هذا السياق يعتقد البعض خطأ بوجود مجموعة أحزاب تسمى (بالحزب الديموقراطي الكردستاني) في الأجزاء الأربعة، على أنها موحدة وتابعة لمركز واحد في أربيل، في حين أن كل حزب منها ظهر بوقت آخر، وفي ظروف مختلفة، ومراحل متباينة، ولايجمعها برنامج سياسي واحد، ولكل منها مطالب تختلف عن الأخرى، وأسلوب عمل سياسي يتميز عن الأخرى، فقد ظهر هذا الاسم بداية بكردستان ايران (١٩٤٢)، ثم بكردستان العراق (١٩٤٦)، ثم بكردستان سوريا (١٩٥٧)، ثم بكردستان تركيا (١٩٦٦ – ١٩٦٧)، ثم انقسمت، وتحولت الى أسماء جديدة، ومازالت السبحة تكر حتى اللحظة .
أزمة العلاقات الكردية – الكردية ناشئة عن صراعات الاحزاب من أجل السيطرة والنفوذ وإلغاء المقابل، وهذا مايبرع فيه بشكل أكثر وضوحا التيار المغامر بالحركة الكردية الذي يتصدره – ب ك ك –، بعد تراجع دور الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي وأجنحته المختلفة، فليس هناك لدى هذه الأحزاب جميعها أي مشروع جاد في التقارب والتفاهم وما طرح فكرة (المؤتمر القومي الكردستاني) بين حين وآخر من جانب طرف حزبي ما يقابله برود من جانب آخر، الا مضيعة للوقت ولعبة للاستهلاك، وفي احدى المراحل أراد البعض تجيير عقد المؤتمر العتيد هذا بدمشق لصالح نظام الأسد .
في تجارب الحركات القومية التي سبقتنا هناك صيغ عديدة للعلاقات القومية، فعلى سبيل المثال تجربة حزب البعث استندت الى قيادة قومية مركزية، وقيادات قطرية في كل بلد تتبع للاولى، ولكنها فشلت بل أضرت بالقضايا العربية عامة، وفي الحالة الكردية لن ينفع نسخ تلك التجربة الفاشلة، خاصة وأن الحركات الكردية مقبلة في الأجزاء الأربعة على التفاعل مع البعد الوطني الداخلي، وحل القضية الكردية في كل بلد وجزء حسب موازين القوى السائدة، فالكردي العراقي وبعد تجربة استفتاء تقرير المصير بدأ بالمراهنة على مايجري في بغداد، والكردي الإيراني ينتظر حسم الأمور بطهران، والكردي التركي ليس مراهنا فقط بل مشاركا في العملية السياسية الجارية بتركيا، والكردي السوري الذي دارت عليه الأيام لم يحسم أمره بعد، تارة يحرق نفسه من أجل اطلاق سراح أوجلان وأحيانا أخرى يرى نفسه تابعا لمرجعية أربيل .
مراهنات الأخ الأصغر – الكرد السورييون – على اخوته الكبار ستكون خاسرة بالشكل الذي تتم حتى الان، فليس ل – ب ك ك – مستقبل في الحركة الكردية،وليس هناك مايدعو الى الاقتداء بسلوكه المغامر وسياساته المدمرة سينتهي بانتهاء محور الممانعة وحماة – قنديل –، وفي سوريا مازالت المساعدات المالية الامريكية تبطئ اندماج جماعاتهم بمؤسسات النظام القمعية، وماهي الا مسألة وقت حتى تنجلي الأمور، وحتى مركز – قنديل – قيد إعادة النظر من جانب خليفة سليماني، وتحديد وظائف جديدة على ضوء إعادة هيكلة وإعادة انتشار كل أدوات وقوى ايران بالمنطقة بعد تشديد الحصار والعزلة على نظام طهران وتلقيه الضربات الموجعة .
على صعيد كردستان العراق، هناك إصلاحات وتغييرات قيد الاعداد باشراف القيادات الشابة في الحكومة والرئاسة ستخذل البعض من كرد سوريا المستفيدين من الوضع الحالي خاصة بعد إقرار عقد المؤتمر العام للبارتي الديموقراطي الكردستاني – العراق هذا العام، الذي سيشهد – كما هو مأمول – تحولا بالعمق على صعيد القيادة، والعديد من الملفات الهامة، وبينها ملف العلاقات القومية، وخصوصا الملف الكردي السوري، الذي سيشهد إعادة نظر في أدق تفاصيله، وستكون النتائج المزيد من الانفتاح على الوطنيين المستقلين، ودعم مشروع وحدة الحركة عبر المؤتمر الجامع وتعزيز التنسيق والعمل المشترك، على قاعدة الاحترام المتبادل، وتغيير قواعد التواصل والآليات .
التحولات المرتقبة بالبارتي العراقي تفرضها الظروف الموضوعية والدواعي الذاتية والاشقاء على دراية بتاريخ قوى حركة التحرر بالمنطقة فمن أقدم أحزاب التحرر الوطني البارتي وحركة فتح الفلسطينية وجبهة التحرير الجزائرية والثلاثة أحزاب السلطة الكاملة أو المنقوصة والكل يعلم ان فتح بغيبوبة بعد انقسامات حادة وغياب الإصلاح والجبهة الجزائرية تندثر وتتمزق يوميا بعد ان اجتازها الحراك الشعبي وماعلى البارتي (حزب البارزاني الخالد) الا اتخاذ الخطوات المناسبة بالتغيير والإصلاح وإعادة النظر بكل الملفات قبل فوات الأوان حتى يستمر بالقيادة والعطاء وخدمة الشعب .