صبري رسول
لم يضبط الموت ميقاته جيداً، كان يراقِبُ خلسةً، كعين راصدة تقتنص الفرصة، تغافلَ أو تحايلَ بحرفية المُختطِف الصّعب المتمرّس، ليفاجئنا بخطفه، ليبيّن لنا قدرته على أخْذِ مَنْ تغلّغل في قلوب الكثيرين، ويجعلنا متفرّجين على وشهود الألم، نبتلع مرارة الألم والحسرة. قلب الموت قاسٍ، لايعرف الرحمة، يحفر في الأعماق، أعماقنا، اخدوداً، ويخطف مواسم الياسمين.
كان الراحل القدير يتميّز بالإخلاص، والوفاء والنزاهة، إضافة إلى بعد النظر؛ يحث يقيس الفكرة بعدة معايير، ليعرف أي كفٍّ أثقل؛ والتحليل الدقيق كان أحد أدواته في مكاشفة المستور من الفكرة، موضوع البحث، وينظر إلى القضايا القومية والوطنية ليس من المنظار الحزبي فقط، بل من منظار محلل محايد وموضوعي ويربط القضية القومية الكردية في سوريا بإطاره الوطني السوري دون أن ينسى البعد الكردستاني كعمق استراتيجي. وجنّد قلمه في هذه القضية النبيلة أكثر من خمس وعشرين سنة دون كلل أو ملل، ولم يضعف أمله في قطف زيتون النضال السياسي.
كانت بوصلته الوحيدة في اتخاذ المواقف السياسية هي حرصه على المصلحة الكردية العليا، المعيار الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وليس النظرة الحزبية الضيقة، المقلّمة على مقاسات الرؤى الضعيفة. لذلك تجنّب كثيراً الوقوف في الفخاخ الإعلامية وفقاعات اختبارية لطرح مواضيع معينة، مستخدماً مهارة جمع المعلومات عن الخبر المُذاع، والوقوف على الدقائق، إجراء موازنة بين المعطيات المتوفرة، الخروج بقراءة عقلانية غالباً ما تكون أقرب إلى الصواب، ليبرهن بأنه الصحفي المُتقِن لمهنته.
لم يكن يحب الأضواء الإعلامية، كان يتجنّب الظهور المتكرّر، لكنه لم يغب عن الإعلام بقلمه الجريء، فيجمع رهافة الحسّ الفكاهي، والسخرية المرة، والقدرة على انتقاء الكلمات المعبرة لإيصال ما يريد إيصاله.
عندما كنا نحضّر مقالاتنا للزوايا الصحفي، مدة ثلاث سنوات في المكتب نفسه، كانت «العدسة» زاوية آخر الصفحة من كردستان، يتناوب هو والكوجري عليها، وزاوية «النوافذ» مخصصة لي ولكاتب «جوال» يتناوب فيها معي. يسألني: هل ملأتَ نوافذك؟ فأردّ: أنتظر عين العدسة لأنظر من خلالها لنوافذ قد تمنحني الضوء. كان يمتلك حسّاً فكاهياً جميلاً، ولغة سياسية متقنة، وثقافة حياتية واسعة. ثروته الصحفية أثرت نصوصه الكتابية، فكان يصطاد الفكرة بمهارة عالية، ويصوغها كما يحبّ القارئ، وبما يتلائم مع حجم الزاوية التي يكتب فيها. فقراتٍ متسلسلة، وإحصاء دقيق للكلماتٍ، ونصّ متكامل.
رغم أجواء بلادنا الكئيبة والدخانية، كان يُضفي على الدورات الإعلامية التي أقمناها معاً في عدة مدن وبلدات (قامشلي، عامودا، تربه سبي، معبدة …إلخ) جواً من المرح والفكاهة. كان محاضراً جيداً يعرف كيف يشدّ انتباه مستمعيه، ويستمع بعمق ليعرف جوهر المسألة المروحة.
يحتاج المرء فترةً زمنية كي يصدّق حقيقة الموت، رحيلُه كان مبكّراً، لذلك كان مؤلماً جداً.