رأيي المقامِر بالساسة

ماجد ع  محمد
سئُلَ أحد المقامرين يوماً عمن يراهم أسوأ منه منزلةً في هذا العالم، فقال: أصحاب المناصب السياسية والشعراء، قيل لماذا وكيف؟ فكان رد المعوّل على هبات آلهة الصُدف، سأبدأ أولاً بنفسي ومن ثم أتحدث عنهم، وأردف قائلاً: إن وضعي ليس بخافٍ على أحد ممن يعرفونني عن قُرب، فأُدرك بأني أذيتُ نفسي كثيراً جداً، كما كنتُ السّببَ  في صب الكثيرِ من الويلات على رؤوس أولادي وزوجتي، إلاّ أن حدود ضرري لم يتجاوز يوماً مضارب عائلتي.
أما السياسي حسب المقامر المتحدث بكل سوءٍ عنه وهو غير نادم، فقال: إنه يُرتّق فردوس الوطن المأمول بالوعود المجانية، مخلطاً الحقائق الصغيرة جداً ببيادر من كوكتيل الفانتازيات؛ فكل يومٍ لديه عهود ومشاريع قولية جديدة عن التغيير والتحرر والتطور والازدهار والبناء والإصلاح، ولكن أغلب الأحيان هو لا يأتي بغير التأجيل الدائم والأفك المتلاحق، والمزيد من الوعود الخلبية المطّهمة التي تجرجر الناس بحبل التسويفات وتقودهم شطرَ مصبات الخيبة والخذلان المتواصلين.
بينما الشاعر الذي لا يكف المقامر عن ذكره في المناسبات التي تستدعي الصور القميئة، أو كلما أراد التقليل من أهميته الوجودية؛ فأكّد بأنه يوهم الناس في مجمل بناءاته الخالية من مواد الصدقِ، وهي كأبراجٍ من قوس قزح مطرزةً بجلباب التوقع المضلل، فيُصدّق فحوى جُمله الكثير من القراء، ويُلاحقون بعد النشوة أوهامه وهم مسرنمون، ولا يشعرون في نهاية الأبيات إلاّ وقد أوغلوا في صحراء الحياة، يتراكضون بلا بوصلةٍ وهم حفاةٌ عراة خلف سراب الكلمات.
وهذا يشير إلى أن تراكم التصورات المغلوطة مداميك أولية لبناء أهرامات الأوهام لدى الكثير من العاملين في حقل السياسة والأدب والعقائد، الأوهام المتضخمة عن الذات والأوهام التي تقزّم من شأن مدارك الآخرين، وهذه العلة من كل بد لا تتشكل من تلقاء ذاتها، ولا تتأتى عبر قرار فجائي أو تظهر إبان صحوة عاطفية، إنما يلزمها فلسفة تؤسس لها، ترافقها، ترسخها، باعتبار أنه بعد الخضوع الكلي لها تكون قادرة على أن تحجب الرؤية تماماً عن أبصار المؤمن بها، وتقدم الواقع الواضح المعالم لواحدهم على غير حقيقتها، فيخال للمرء سراب البيداء ماء، وتلك هي واحدة من كوارث بعض التنظيمات السياسية سواء كانت دينية أم دنيوية، وحيث أنها تناهض عملياً أغلب ما هو حقيقي، أو تعمل على توظيف ذرات الحقائق وتضخمها إلى درجة فقدان الحقيقة لمصداقيتها من فرط تلحُّفها بالأسمال المزيفة، باعتبار أنها بالنسبة إلى الواقعة المتضخمة كانت أشبه بإبرة في كومة قش، ولكم أن تتصوروا صدمة اكتشاف حقيقةٍ حجمها بحجم الإبرة مقابل بيدرٍ كامل من الأضاليل التي كوّنها المضلِّل وراكمها فوق إبرة الحقيقة تلك.
عموماً فهذه الفانتازيا المتعاظمة قدّمها ميغيل دي ثيربانتس بأفضل حُلّة في دونكيشوت منذ أكثر من أربعئة سنة، إلاّ أن الغريب في عالمنا الحاضر هو أنه ثمة فئات بشرية وبالرغم من أنها تستخدم الطائرات وقطارات النقل السريع، إلا أنها مصرة فوق ذلك كله على اختراع العجلة البدائية من جديد، كما أن الكارثة في الفكر الدونكيشوتي عندنا هو أنه جماعي، إذ أننا في حالة دونكيشوت الاسباني أمام نسخة فردية لا ضرر من وجودها بين الناس، بل وجودها يساهم في نشر الكوميديا متمثلاً بالسخرية، المرح والهجاء والهزل، بينما الخطورة في الفكر الدونكيشوتي لدى الساسة عندنا ومتبوئي المواقع المؤثرة في المجتمع، هو أن داء الوهم  الذي يبثونه شمولي، ولا يصيب فرداً معيناً أو مجموعة من الأفراد فحسب، إنما قد ينزل وباؤه على مجتمعٍ بأكمله وهنا مكمن الكارثة.
وحيال النماذج التي نتحدث عنها من الممكن أن يُقال: إذا كنتَ موقناً بأنه ليس لديك القدرة على تحقيق أي شيء ملموس وحقيقي على الأرض، فما عليكَ إلا أن تضخِّم حجم شعاراتك، وتدِّعي بأن مطالبك أعظم مما يتم تداوله بين الناس الواقعيين، وأن مشروعك بالرغم من كونه لا يمت للثيوقراطية بصلة إلا أنه يُحاكي ما كان يدور في أزقة السماء، وذلك لكي تتهرب من تنفيذ أي بندٍ من البنود الفضفاضة التي وردت في سياق مشروعك الخرافي، وفي هذا الإطار لا شك هناك الكثير من الأحزاب الدينية والقومية في الشرق الأوسط بارعة جداً في خلق الفانتازيات السياسية، ولن أذكر ههنا أيّ تنظيم منهم، إنما سأدع لكَ/ كِ عزيزي/ تي القارئ/ة حرية التفكير والموازنة والاختيار، لذا فإن أردتم الاتيان بكل ماهو سحري، خلاّب، مخادع للبصر والبصيرة، فما عليكم إلاّ العودة إلى مسار حياة العاملين بنهج تلك المدرسة السياسية التي بَنَتْ صروحها من مداميك الفانتازيا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…