رحيل الشاعر البدوي الجميل.. في وداعية أبي سلام «فاضل فهيم الحسون»

إبراهيم اليوسف
 
لكم كانت صدمتي كبيرة، وأنا أجد صورة للشاعر فاضل فهيم الحسون”1963-2019: ابن بقرص/ الميادين- ديرالزور. ابن سوريا كلها: شبراً شبراً، وإلى جانبها عبارة من رفيق وصديق مشترك هو زهير مشعان ينعى فيه شاعرنا الشعبي الكبير أبا سلام. كنت في هذه اللحظة في السيارة، ممدداً في الكرسي الخلفي، وهي تقطع الطريق بنا باتجاه بروكسل لشأن مهم. أطلقت، لا شعورياً، صرختي: ابني فائق الذي يقود السيارة، في ذلك الصباح الباكر من يوم12-12-2019، وبقربه ابن أختي نوشين حفيظ عبدالرحمن اللذان رافقاني إلى الموعد البروكسلي، ارتبكا، عرفا أن أمراً ما. مكروهاً قد حدث. 
خفت على فائق الذي يقود السيارة من أن يفقد تحكمه بها، التفت إلي نوشين، يسألني بفزع:
ماذا حدث خال؟
صديقي الشاعر أبو سلام توفي…!
بابا، لقد كدت أرتكب” حادث سير”..!
كلاهما، يعرفان علاقتي بأبي سلام الشاعر الذي تعرفت عليه من خلال الحزب الشيوعي السوري، كما تعرف ذلك أسرتي كلها. كما يعرف أصدقائي، إذ طالما ابتعد  فاضل الحسون، خلال نضاله الحزبي، عن الجناح “الجبهوي”،  نتيجة موقف صارم من قبله تجاه الاستبداد،  حيث توجه تارة إلى- منظمات القاعدة، وأخرى إلى فصيل “قاسيون” الذي علمت مؤخراً بأنه غُير اسمه إلى” حزب الإرادة الشعبية”، وكان هذا الفصيل من أوائل الجهات السياسية “السورية” ممن  نظموا مظاهرات سياسية متواصلة منذ العام2001، وإن تحت شعارات مقبولة، لنشر ثقافة التظاهر- وأقولها لمن يقوِّم هذا التيار انطلاقاً من مآخذه على حاضره- وكان ذلك بعد أن عملنا معاً في الحزب الشيوعي الرسمي- بعضاً من الزمن- وصار أحد أصدقائي المقربين، فيكاد لا يتوجه إلى بيت في قامشلي، لطالما أنا هناك، إلا في حالات نادرة. يأتي عشية عيد العمال. أو عشية يوم عيد النوروز، أو حتى أحياناً عشية “عيد الجلاء” وفي غيرها من مناسبات الحزب الشيوعي، أو حتى عندما ندعوه في “المنتدى الثقافي” إلى أمسية مشتركة، أو خاصة، بحيث كانت قامشلي أحد عناوينه، كما دمشق، بالرغم من أنه من هؤلاء الذين أحبوا سوريا كلها: مدينة، مدينة، شارعاً شارعاً، كما كل أهلها وهو ذلك البدوي الاستثنائي، ومن حوله بعض الشيوعيين الصلدين، من أبناء: الميادين- البوكمال- الدير، إذ إنني كلما التقيتهم ازددت حماساً لحب الشيوعية الحقة- مع تحفظي على نقدي على نسخها المحلية التي لطالما نقدناها من الداخل وفي المؤتمرات لكنها كانت من عداد “أضعف الإيمان”- إذ إن الشيوعيين الحقيقيين لطالما كانوا ” ملح الأرض” وبعكس ما يروج ضدهم بعض الناشطين “المحدثين” أو الكتبة. كتبة الثأر. كتبة زمن الرفاهية. زمن سقوط الخوف، عديمي الانصاف- وأنا مع نقد الحزب بموضوعية إذ له الكثير وعليه- فقد كان الشيوعيون الحقيقيون في طليعة المواجهة في الدفاع عن لقمة الناس، ومن أجل بلد حر، وشعب سعيد، من دون أن ينسوا خصوصية أحد، إذ طالما ثمة من التف في مؤتمرات الحزب الشيوعي حول حق الكرد في تقرير مصيرهم، في كردستان الكبرى- مقابل من التف على ذلك وهو ما يحتاج إلى دراسات مطولة- ذلك البند الذي حورب طويلاً، وأجهز عليه، بسبب التواطؤات التي تمت بعيد دخول “الحزب الشيوعي” في جبهة النظام 1970، ليظل هناك شيوعيون مبدئيون- ماعدا عميان التحزب- ممن كان موقفهم من النظام، ومن حق تقرير مصير الكرد وغير ذلك خطاً أحمر، لا يحيدون عنه، لرفضهم قبول وجود الآخر، وحقوقه!
أصدقاء  فاضل فهيم الحسون- وقد سماه والده فاضلاً على اسم الصديق الشاعر فاضل سفان-  كانوا من الكرد. من المسيحيين. من “الإيزيديين” من العرب. من كل أشكال الفسيفساء السوري، ليس في ثقافته تقويم أحد، انطلاقاً من موقف عصبي، فقد كان منتمياً إلى روح الإنسان، ولعل بعض رفاقه. أصدقائه كانوا- كما علمت- من أقرب رفاقه إليه، وهذه الصفة لا يمكن أن يتفهمها، إلا من كان يعرف طبيعة جبلة روح أبي سلام، الأكثر كرماً، والأكثر حباً، والبسيط، الشفاف، الوفي، النبيل!
 
أجل. ثمة مواقف كثيرة لأبي سلام، لا يمكنني نسيانها، ومنها أنني تركت تيار قاسيون مع المربي عبدالرحمن أسعد، عشية سقوط بغداد نيسان 2003، لاعتبارات محددة، ليس هنا مكانها، لأظل مع بعضهم: من إسلاميين وقوميين عرب وكرد في إطار- اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين التي تركتها أيضاً- وانقطع تواصلي ” التنظيمي” مع الحزب الشيوعي، نهائياً، وكانت الضغوطات تشتد علي، آنذاك اتصل بي د. قدري جميل وقال: أتمنى أن تمر علينا في دمشق، لأمر مهم،  وعندما سافرت إلى دمشق، قال لي د. قدري:
حدثني الرفيق أبو سلام أن الأمن السوري يضغط عليك كثيراً، وأن ظروفك الاقتصادية سيئة، فقد قررنا، ولطالما أنك تبتعد عن العمل الحزبي أن نفرغك لدار الطليعة، كمدقق لغوي، عن بعد، ولا نطلب منك العمل، فتكون في بيتك، وسيكون راتبك الشهري- كذا- وكان  ثلاثة أضعاف راتبي أثناء العمل وسنعطيك بيتاً لتسكنه- وتحدث إلى أحد سائقي مكتب “قاسيون” الذي مضى بنا إلى أحد أحياء دمشق وأراني بيتاً عربياً مناسباً. كان معي الصديق عمر كوجري الذي يعرف أبنائي، ومنهم فائق الذي يعمل معه، فقال لي:
أغبطك، البيت ممتاز، وسنكون معاً في دمشق، أبناؤك أكثرهم طلاب جامعة، ستكونون معاً وتعيشون بشكل جيد، وليس من عمل كبير مطلوب منك- لكنني بعد التفكير العميق، شكرت د. قدري على وقفته تلك معي، و واصلت العمل للحصول على “السماح بالمغادرة” للعمل في “الخليج”، وليس الهجرة إلى أوربا التي كنت أرفضها. هذا الموقف من الشاعر أبي سلام، لم أنسه، ولينقطع التواصل بيني ود. قدري ولم نتحاك إلا مرة واحدة، وكانت  في نيسان 2011، عندما تحدث إلي الصديق محمد فوزي داده- أبو جلال- وقال: رفيقك السابق د. قدري ظهر على التلفزيون وقدم رأياً جدّ شجاع ضد النظام، فاتصلت به وشكرته، لاسيما إن تيار قاسيون وقف مع الحراك الشعبي وقدم شهداء، إلا أن نظرتي تغيرت في الموقف من المشاركة في وزارة النظام، وكتبت مقالاً بخصوص مشاركات الشيوعيين، في حكومة نظام ساقط، وهو رأيي حتى الآن، وكان رأيي، وأنا داخل الحزب!
ثمة رفاق لي شيوعيون، عندما تركت صفوف الحزب انقطع ذلك الخيط بيننا، بالرغم من أنني يوماً ما لم أرد أن أسيء لماضي علاقتي بالحزب، وإن نقدت- القيادات- التي ربطت مصلحتها بمصلحة النظام، تحت يافطات ما، و”صادف”، أن جاءت خواتيم الثورة، بعد اختراقها، بما يخدم وجهات نظرهم غير المسوغة، إذ كان عليهم أن يكونوا من أوائل المنخرطين في الثورة!
 
بقي أبو سلام، أحد الشيوعيين القلائل الذين لم ينقطعوا عن التواصل معي، بحميمية الأمس، ولم تنقطع اتصالاتنا- وقد كان آخر تواصل بيننا كان في 15- 9-2019- حيث عزيته بقريبة له- وتحدثنا عن بعض الأصدقاء، قال لي: نزار بريك هنيدي- جاري- ويسلم عليك، وأسرتي في دمشق، وأنا أعمل في ديرالزور، وأتنقل بين دمشق والدير، ثم صار يحدثني عن الأحياء الأكثر تضرراً بسبب داعش: الجورة- عمال وسط- إلخ، وتذكرنا معاً مشروعنا في مجلة، لم تنطلق، و كان من عداد أعضاء تحريرها ” د. طيب تيزيني والصديق الشيخ هشام باكير “ابن القريتين”-الذي قضى في حادث سير ورثيته- وهو وأنا ولربما د. محمد حبش- أي أن اللجنة الوطنية هذه كانت غير الحزب الشيوعي وتيار قاسيون- حدثني أن صديقنا المشترك عصام حوج ترك دمشق، وهو في “القامشلي” إلخ، ثم طلبت منه رقم هاتف عصام، ولم ينس أن يكتب لي “وإلى اللقاء قريباً..!”، وها هو غادرنا، بغتة، بلا أي إنذار.
اتصل بي من لبنان. من دمشق. من ديرالزور، مرات عديدة، عبر سنوات الحرب، إذ كان دائم التفاؤل، ولم يستسلم، بالرغم من غزو الراديكاليين بأشكالهم ومنهم: جبهة النصرة وأخيراً: داعش لمكانه، واحتلال بيته، وتهديده، واعتقال وتهديد رفيق عمره. رفيقه. توأمه: فيصل الحسون-أبي مكسيم. صديقنا المشترك!
 
لم أكن لأتصور أن أبا سلام الذي لطالما حدثني عن تفاصيل شؤونه: موقفه من بعض القيادات- ووفائه لطبقة العمال وللفلاحين- مبدئيته في الموقف من النظام، والإسلامويين، حبه للكرد. للسوريين. للناس، كل الناس. حكايات حلمه و حبه في “حمص” وديرالزور ودمشق!،  أنه سيرحل- بهذه السرعة- وهو في أوج قصيدته وعطائه- فلقد كان أحد أهم عناوين الوفاء والإخلاص التي أعول عليها، فهو من الندرة من أصدقائي الذين لم أسجل يوماً ما ملاحظة عليهم، ولم أجدهم إلا مؤثرين على أنفسهم، وهو الذي خبرته طويلاً، سواء من خلال أسفارنا المشتركة- إلى كوباني مثلاً- عندما منع الأمن العسكري احتفالاً جماهيراً كنت وإياه ووليد حزني وأحمد حيدر سنشارك فيه، واحتلنا على أجهزة النظام فأقمناه- أقامته الجهة الداعية المضيفة-  في أحد البيوت- لتترك الرحلة الجميلة. رحلة التحدي ذكرى مهمة في أرواحنا.
خلال إحدى دردشاتنا، على حسابه الفيسبوكي: ذكرني أبو سلام برياض درادر، ومشاركاته في المظاهرات- في السنوات الأولى من الألفية الجديدة مع تيار قاسيون- بالمناضل حسين الشيخ. بالشاعر قاسم  عزاوي  بزيارتنا إلى كوباني بأحمد حيدر وقصيدته” الساعة الخامسة والعشرون” التي راح رجل الأمن يسخر منها، ما إن عثروا عليها، وهم يفتشون حقائبنا وجيوبنا، بعد أن أوقف الباص، وقال: مازلت أضحك كلما أتذكر الموقف، وكان يتهكم من ثقافة رجل الأمن- وكنت قد نسيت الموقف- وقد تمت في اليوم نفسه مصادرة أحد ديوان جان دوست الذي لحق بنا، وحضر الأمسية الشعرية، وكنا ضيوفاً على منظمة الحزب الشيوعي السوري في “كوباني” وتحديداً في منزل الصديق بكر أحمد” أبي بيان”
 
في الأمسيات المشتركة، في الأمسيات التي حضرتها له، كان ثمة جمهور واسع ينتظر قصيدته التي يكتبها بلغته البسيطة، المكهربة بأقصى ما يمكن من شحنات تحريك المتلقين، لما فيها من تناول من قضايا بسيطة، تهم هؤلاء، سواء أكانت قصائد وطن، أو موقف، أو حب، وكثيراً ما كان الجمهور يرددها معه، وهو ماجعله جد قريب من أوساط واسعة، على امتداد خريطة البلاد!
 
أبو سلام، الشاعر الملتزم، كانت قصيدته مرهونة للإنسان للوطن، للبسطاء، للفقراء، للمضطهدين، لم يكتب يوماً ما للطغاة، ولم يحاب أحد. كان مؤمناً برؤاه، بفكره، بالغد، لم تفتر عزيمته قط بالرغم من أنه طورد، وهدد، وتعرض لمواقف كثيرة من بينها: حرق مكتبته من قبل داعش. احتلال بيته، ولم يستطع العودة إلى قريته بقرص إلا ليدفن فيها، فهو كان عارفاً بأن فيها بقايا- الخلايا المنومة- الذين قد يفتكون به. بأسرته، لأنه كان مختلفاً، لأنه كان صاحب فكر علماني حر، بل لقد كان مصير رفيقه- ابن الموحسن- صديقنا المشترك” أبي مكسيم” أمام عينيه، فهو لم يتخوف من داعش، وواصل حياته، وهو الذي ساعد الناس في مسقط رأسه، وبنى مدرسة، ومستوصفاً، و زرع آلاف الأشجار في المنطقة: في قرية  المريعية، فقرية العبد، والموحسن- قرب المطار-  فكانت تهمة داعش له: عبادة الطبيعة!!، فأعد مته وآلته الموسيقية “العود” وصوته الثوري الحاني، بعد أن أعدمه النظام بفصله من العمل مدرساً في المعهد الموسيقي، نتيجة مواقفه!
خمس وثلاثون سنة، عمل خلالها في مؤسسة “رودكو” لإنشاء الطرق”، وظل مرتبطاً بعمله، ولم يتركه إلا خلال الأسبوعين الأخيرين من حياته، إذ تعرض لأزمة قلبية، مفاجئة، إذ إن قلبه ما عاد يتحمل كل الدمار الذي لحق بمدينته، ليتوقف قلبه- العاشق- الحاني، الكبير، والرقيق، النابض بالحياة، عن الشعر، والحياة، ويكون إعلان غيابه مدوياً، كما كان حضوره الحياتي والإبداعي مدوياً.
هذا هو الشاعر الإنسان: أبو سلام. هذا هو صديقي الشاعر الطيب. الشاعر البسيط في يومياته. الشاعر الصلب في موقفه. صاحب الموقف الذي أنشد ضد داعش. أنشد ضد القتل. ضد الدمار، ولم ينحن بل بقي كما السنديانة شامخاً. نم قرير العين-صديقي- أبا سلام في قريتك بقرص، كي يلحق برفيقيه: المختار الشيوعي أبي جاسم- أبي مكسيم” صديقينا المشتركين”، وهما الشيوعيان المبدئيان: مثله..!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…