إبراهيم اليوسف
ظهر أمس، تذكرت ماقاله ضيف لي كان قد حضر مؤتمراً دولياً في إيريفان قبل يومين، والتقى سياسياً روسياً كبيراً فيه، سأله: هل تعرف عبدالحميد درويش؟ فرد عليه صديقي: هو سياسي كردستاني معروف جداً، فقال له السياسي الروسي، وهو عضو مكتب سياسي في الحزب الحاكم:
إنه شخصية سياسية كردية مرموقة
عندما حدثني صديقي ذلك- وهو حسو هورمي- وكان أحد أربعة كرد في هذا المؤتمر مع صديقي الباحث عيدو بابا شيخ- شقيق بابا شيخ الأب الروحاني للإيزيديين- و زوجة قوباد طالباني وآخر نسيت اسمه، قلت في نفسي سأخبر العم حميد درويش بذلك، لاسيما وأنه مضت أسابيع كثيرة على مكالمتنا الأخيرة التي تمت بحضور صديقي حسن جنكو، الكاتب والقيادي في الحزب التقدمي، إذ كانا قد ذكرا اسمي، وهتفا بهذه المناسبة، وهوما أشرت إليه في مقال لي، حيث قال لي:
تعال، اشتقنا إليك، سأستقبلك أنا، وتكون في حمايتنا. وكان كلامه جد مبهج.
أمس، بحثت عن رقم هاتفه، حاولت الاتصال به فلم أفلح، لذلك هتفت للصديق د. صلاح درويش شقيقه، وحدثته أني لم أفلح في مكالمة العم بافي آختي، وسردت له القصة، وقلت سأسأل حسو هورمي عن اسم ذلك السياسي، غداً، أي اليوم، وأكلم عمي حميد. ماحدث أنني، ومنذ بداية الحرب، وكما يعرف قلة من حولي، أعاني من من الأرق في أصعب حالات تأزمه. من عدم النوم جيداً، لذلك فقد ظللت مستيقظاً حتى السادسة والنصف، أتوزع بين قراءة الأخبار والكتابة، والقليل مما على طاولتي من كتب ومشاريع مدرجة، بسبب صدمة ماهو واقع، عساي أجد بريقاً، خبراً سعيداً، بشرى ولو من قبل إبليس. تضامناً من قبل أي كان. لاأدري كيف غفوت بعيد السادسة والنصف صباحاً، منهكاً، مرتمياً في سريري، وهو حال كل كردي. كل سوري شريف. كل إنسان يرى بعينيه مايتم، وهو حالي أمام أية محطة سورية، وكردستانية، يتعرض فيها أهلي لمصيبة ما، ولو كان حكماً بإعدام شاب من كردتان الشرقية، وهي خصيصة في يعرفها من هم قربي
ترددت في الضغط على زر كمبيوتري- الديسكتوب- لأجلس على الكرسي، وأنا أشرب كأس الماء الصباحي قبل القهوة، فأجد صورة العم حميد درويش، إلى جانب كتابة ما. نص ما، فقلت في نفسي:
هل كتب مقالاً في ما يجري؟، أم أنه حوار معه؟، أم هو بيان من حزبه؟
بعد ثوان- فحسب- اكتشفت هول النبأ الحزين:
ما هذا ياإلهي؟ فقد رحل العم حميد؟
رحل حادي المناضلين الكرد
ياإلهي، رحل أحد أبرز قياديي حركتنا الكردية. رحل قائد التقدمي. القائد السياسي حميد درويش
هتفت، حالاً، لأخي د. صلاح وهو يستعد للسفر إلى الوطن لحضور مراسم عزاء شقيقه، ليؤكد لي أن النبأ صحيح..!
لاأريد- هنا- أن أكتب إلا عن صدمتي برحيل أحد أواخر أقطاب الحركة الكردية الذي كان بيننا، وكان ثاقب النظرة، مخلصاً لقضيته، جريئاً في طرح رأيه، وفياً، حانياً، إنساناً، شاهداً على إرهاصات، وبدايات، ومخاضات، ومسيرة جد صعبة للحركة الكردية، وقد انخرط فيها إلى جانب قامات شامخة، عالية، بهمة وعزيمة لاتلين، عمل كل منهم بأكثر من إمكاناته، أصابوا كثيراً، ولربما أخطأوا في محطات ما- وهي سنة العمل والنضال- وكانت هناك ظروف هائلة تدفع للانزلاق، وللارتباك، وللتشويش، إلى الدرجة التي لم ينج أحد من هذا وذاك، لاسيما وسط استعداء أشرس دوائر ورجال الاستخبارات في البلاد. في كردستان عامة، ما دعوا إلى التشويش، وتضبيب المسارات، لخلق روح الفتنة التي لايزال في مركبتها بعض من آذوا العم حميد في مسيرته، نتيجة رأيه. نتيجة رؤاه. نتيجة اجتهاداته التي يغفرون أمثالها لأنفسهم، للمقربين إليهم، ولم يغفروها له: أصاب أم لم يصب، لذلك فقد كان- وهو الحليم- والمنفعل بهدوء، عادة، إزاء اشتداد السكاكين ضده كما كل منا، يذبح. يقتل. يجلد. يستشهد في كل يوم، ومن قبل الخصوم، وأتذكر أنني كنت ممن اختلفوا مع رفاقه نتيجة نميمة من بعض من حوله، إلا أنه خطط للقاء بيننا، فكان نعم الأب، وقلت له يومها:
أعدك عمي، يوماً ما، لن أتناولك وحزبك بكلمة ما مسيئة بعد الآن..!
وكلما كنت أجدني مختلفاً مع رأي له أو لحزبه، فقد كنت أحدثه. أحدث رفاقه، فيناقشني بإسهاب، ونتوادع وكل منا يحترم الآخر مواقف كثيرة تمت بيننا، ولقد كتبت عن بعضها، في مقالات قديمة، لاسيما في مايخص العلاقة بين أسرتينا. حيث لجأ جدي الشيخ إبراهيم- وكان في أول شبابه- مع عمه الشيخ عبدالله وبعض أهلنا، إلى قرية جده، في وقت ما لن أسميه-هنا- وكان بين أسرتينا مابينهما من ود وتاريخ يعرفه بعض رفاقه، إذ كثيراً ما روى لي هؤلاء ماكان يقوله لهم
إبراهيم، قبر جدكم الشيخ عبدالله ألقي عليه التحية قبل قبرأبي ووو
إبراهيم، لقد وعدت ابن عمك محمد نذيرأن أبني”أشيد بناء” مرقد جدكم”
رحيل العم حاج درويش، في هذا الظرف التاريخي، ونحن بأمس الحاجة إليه، إلى آرائه، وعلى نحو مفاجئ، وهويرى بعينيه أن ما اشتغل عليه هو وجيل الرواد من الساسة قد اختطفه مقامرو الدم والسياسة، ماجعل مدينة سري كانيي/ رأس العين، محتلة، أمام عينيه، بعد عفرين، والحبل على….العنق أو الجرار، في الطريق إلى المجهول، في الوقت الذي لم يؤخذ رأيه، ولا رأي أحد من الحركة الكردية التاريخية بمحطة ما، ماخلا شهود الزور، أي بعض من نجوا من الانتحار السياسي، وركبوا مركبة” ب ي د”، لدواع عدة، أو بعض الزعران، أو المغرَّر بهم، أو السذج، أو الباحثين عن المجد ممن سرقوا اسم مؤسسة، أو حزب، أو أسسوا حزباً بأشخاص محددين، ليشكلوا إطاراً شكلياً، للانتفاع الشخصي، أو العام، كنوع من عملية إجهاض الحركة السياسية الكردية، وحق شعبنا، باسم الدفاع عنه، وبناء وطن.
حميد حاج درويش، بهذا المعنى، رمز لنا، ولكم قلت في لحظات انفعالية. لحظات صفاء:
لم لا نتخذه رمزاً لنا، مع اختلافي مع بعض آرائه، والتي سجلناها عليه، وإن كانت أقل بكثير من مآخذنا على آراء قادة أنقذوا شعوبهم في لحظات ما، وأكرر أنني لم أكن أحياناً مع آرائه، لكني من عداد من قصروا مع العم حميد، فلم يتم إنجاز الحوار الذي كنت سأجريه معه- ويعرف ذلك كل من الصديقين علي شمدين وحسن جنكو- لدواع تتعلق ببعدي عن الوطن، والظروف الصعبة التي يمر بها إنساننا.
لقد كرس حميد حاج درويش، المناضل الكبير حياته كلها من أجل قضيته، ومن أجل شعبه، وذلك منذ نعومة أظافره، إلى آخر مشاريعه التي كان يقدمها لتخفيف الصدمة عن ذويه، وظل يحمل معه إلى مثواه الأخير: حلمه المنكسر. أوجاعه. غدر بعضهم بحقه، حتى ممن نقلوا ضده ببغاوياً ما كان يقال ضده، من دون أي تبين، وكأني به كان يقول: اللهم اغفر لقومي، وهو ما أقوله ليس دفاعاً عن بعض عثرات تجربته، هنا أو هناك، أوما لااتفق معه، فهي كما أشرت اجتهاداته ورفاقه، لكنه كان آخر المناضلين الكبار الأحياء، من جيل المؤسسين للحركة الكردية، وله باع نضالي كبير في خدمة أهله، و هومن أكثر الوطنيين الأحياء ممن عملوا من أجل شعبهم، وإن كان سيحدث له: أن يواجه بعض خصومه بما يشبه أدواتهم في الرد عليهم، وهو أمر أتركه للمقربين العارفين بهذه التفاصيل.
أعداء حميد درويش، الذين كذبوا عليه، هلا راجع أحدهم نفسه قائلاً: لقد كنت أكذب عليه، لاسيما هؤلاء الذين أخطأوا أضعاف ماسجلوه عليه، وهي عثرات مسيرة الطريق الطويلة التي لايمكن أن ينجو منها أي قائد، مهما كان داهية، لطالما هو محاصر بأرخبيل من الأعداء والمفترين من أعداء شعبه..!
أرشيف حميد درويش، مذكراته التي لم تدون. الخط البياني لحزبه. كل ذلك بحاجة إلى ورشة توثيقية، آمل أن يكون رفاقه قد انتبهوا إلىه، ودونوه، ووثقوه، لأنه كنز كبير، بمره وحلوه. بعذاباته، وأحلامه، وانكساراته.
أشهد- عماه- أني حزنت عليك، أشهد عماه أحسب أن عمي عبدالقادر- صديقك- قد توفي للتو- أو ابن عمي نذير- حفيد الشيخ عبدالله وهو صديقك- قد توفي للتو- وكنت تعزيني برحيل كل قريب لي، تقدم التعازي لنا في خيمة عزاء أبي، ومن ثم أمي حين كنت غائباً في دولة الإمارات، وتوصي رفاقك: لاتنقطعوا عن الخيمة، وهو مافعله الراحل إسماعيل عمر الذي قال ماقلته، ولربما مشدداً بأكثر على ذلك، كما رُويَ لي آنذاك، رحمه ورحمك الله!
مدين لك عمي، فكما كنت تلقي السلام على قبر جدي، كلما زرت قبر أبيك، فكما كنت تلتزم بمناسبات أسرتي، فإني كنت أتمنى أن أكون بين مشيعيك إلى مثواك الأخير. ألقي عليك النظرة الوداعية، الاعتذارية، وأنا الذي خلتك ستظل حياً وسنلتقي وسنعمل الكثير- لكنك سئمت صبيناتنا. سئمت طعناتنا. سئمت أكاذيبنا. سئمت مراهقاتنا. سئمت مزاعمنا. سئمت خياناتنا بحق بعضنا، بحقك
نم مطمئناً، قرير العين، في مقبرة القرمانية. قرية أبيك. أجدادك. عاصمة آل حاج درويش. عاصمة الوطنية، فأنت اليوم في مصاف القائد نورالدين ظاظا الذي أعدت الاعتبار إليه- وإن بعد أن تم ماتم من خلافات في حزبكم الأول وسفره ورحيله- فأنت أهم رمز مؤسس للحركة الكردية، بقي حياً بيننا، وأكثر من ناضل زمنياً وكمياً، لأجل أهلك، لأجل شعبك، وبأدواتك الواقعية الممكنة، والتاريخ خيرحكم. خيرمن سينصفك، لتكون رمزنا الكردي الذي نتباهى به- وأي رمز من بيننا لم يواجه العثرات والمثبطات والكوابح-لاسيما إذا نظرنا إلى طبيعة كردستانك.. مكانك. حيث أخبث، وأقذر، وأوسخ أجهزة مخابرات العالم، عديمي الأخلاق ممن اكتروا أزلامهم، المسيئين، بحق أي طاهر.
أيها الذين استعجلتم رحيل أبي أختي، وقلتم بوقاحة يوماً ما: ألا يرحل عنا؟. هاهو قد رحل، فاطمئنوا، افعلوا ماتريدون، فلقد عاش بينكم مهدداً، من غدر أي مراهق، محرض، مغسول الدماغ. عاش مهدداً من جهات كثيرة، وكان يقبض على الجمر، يوجه بوصلته على طريقته، بما يخدم شعبه ومكانه، من دون أن يبخل باغلى مالديه في سبيل ذلك، غيرخائف في موقفه الشجاع لومة لائم!