د. محمود عباس
ما بين جلد الذات وقدرات شعبنا مدارك، وبين توعية مجتمعنا وتسخير طاقاته الأنية لإنقاذ نفسه أبعاد، وبين إيقاظه ومحاولة إقناع الدول الكبرى، وعلى رأسهم ترمب وبوتين؛ لإيقاف الكارثة الجارية مراحل زمنية، وبين تسخير الأقلام والإعلام للداخل الكردي وإشكالياته؛ والخارج الدولي والتحركات الدبلوماسية آلام شعب ودمار أمة. تفضيل جانب وإهمال الأخر تحت مسوغات توعية المجتمع وإيقاظ الحراك وفي هذه اللحظات تضر ولا تنقذ المجتمع، ولا القضية. أمتنا تذاب ونحتاج إلى معالجة إسعافية، إلا ألهم إذا كنا قد بلغنا حد اليأس المطلق في تغيير الجاري.
دول ومنظمات وشخصيات مهمة في العالم تقف اليوم إلى جانب الكرد المدافعين عن أرضهم، بغض النظر عن توجهات الأحزاب المسيطرة، فهم يرون المآسي والدمار ويتوقعون الكوارث، يحاولون حث أعداء الكرد ومن يقف ورائهم من الدول الكبرى على إيقافها، ففي الداخل الأمريكي والأوروبي موجات من الدعم، وسكوت دول مثل روسيا والصين وغيرهما أو تصريحاتهما الخجولة، تصعد من عنجهية الأعداء والتمادي في غيهم وتنسيهم الأصوات المعادية والتي تحثهم على التراجع عن مخططاتهم التدميرية وقتل شعبنا.
فلا نظن أن المشاركة أو محاولة دعم وتصعيد هذه الموجات المؤيدة لنا عالميا سذاجة، أو قلة إدراك على أن توعية الشعب من أهم ضرورات النضال، أو أنها ستعيق محاولات من يريد أن يوقظ الأمة، فتوعية الحراك وتنوير الشعب وتصحيح الأخطاء من متطلبات جميع المراحل، وهي مسيرة دائمة لا تقف على مرحلة دون غيرها، اليوم كالبارحة والغد، وفي لحظات الصراع أو السلم. ولكن من الغرابة أن يحث البعض على تغيير وجهة الحراك الكردي إلى التمسك بمهمة دون غيرها، كالإلتهاء الكلي بتوعية الأمة وتصعيد التهم وتوسيع الخلافات الداخلية على نقد مواقف ترمب، أو محاولة إيصال صوتنا المعارض لإدارته وإلى العالم المؤيد لنا، خاصة في هذه اللحظات العصيبة وحيث أن شرائح التأييد العالمي تتوسع يوما بعد أخر، ولابد من محاولات إقناع الدول على أمل الحصول على دعمهم، لإيقاف هجمات الأعداء إن كانت دول أو منظمات عنصرية.
جميع الأنشطة السياسية والثقافية من الضروريات، ومن بينها المسيرات اليومية، ونقد من يدعم أعداءنا، مثلما نراه اليوم على صفحات التواصل الاجتماعي بحق الرئيس الأمريكي ترمب، ولا نستبعد أن إدارته تبلغه، وتصل لمنافسيه، ويفرشون له ما يدرج بحقه وما يقال عن مواقفه وخلفيات تفضيله تركيا المبتعدة عن أمريكا وعن الناتو، على الكرد الذين حاربوا مع الجيش الأمريكي، مثلما يقال له عن أراء مناوئيه حول مواقفه وتصريحاته.
فالتركيز على جلد الذات تحت مسوغات توعية الأمة، وكما ذكرنا، الأخيرة من الضروريات وفي جميع المراحل ولا تختزل في هذه اللحظات دون غيرها، ولكن ورغم أهميتها يتطلب منا الحذر التام الآن لئلا نسقط في إشكاليات تصعيد الصراعات الداخلية والالتهاء بنواقص بعضنا، ولا بد من حث كل الأطراف على التلاحم، وإيجاد نقاط التقاطع، وما أكثرها في هذه الظروف العصيبة، والتي تكاد نسيانها وتغييبها وعدم الحث عليها، مدمرة للمجتمع وللمدافعين الأبطال عن الوطن، وتخمد همة من يحاول إيجاد دروب نحو الخارج الدبلوماسي.
نقدكم المنشور في (موقع ولاتي ما) كلمات جميلة لكنها رؤية جانبية، تثمنون جانب نضالي على حساب الجوانب الأخرى الضرورية، أو لربما تتناسون الأساليب الأخرى في الصراع مع الإعداء، الذي لا غنى عنه أو تهملونه، تظهر مفاهيم في مجريات المقالات تميل إلى جهة وتطعن في الأخرى، تفضل ضرورة وتلغي ضرورات، وبالتالي تخرج المعادلة عرجاء والنتائج ستكون فاشلة، مثل فشلنا ونحن سذج أمام خباثة الأعداء.
لا أظن أن هناك من يحلم أن الأعداء رحماء، ويتوقع منهم العطف، ولا أظن هناك من وطني يتملق لهم، ويستغيث بهم لإنقاذ الذات، ولا نظن أن التعامل مع الخارج ونقصد الدول الكبرى بشكل خاص، أو كما يعرف العمل معهم كأدوات أو تلاقي مصالح تدرج ضمن خانة التخاذل أو طلب الرحمة من الأعداء، فأمريكا وروسيا وأوروبا والصين ليسوا بأعدائنا، لا شك تحركهم المصالح، وعلى هذا الوتر يرن النداء الكردي اليوم وغداً، وتطلق الصرخة لتقديم المساعدة، ولا تعني هذا أنه لا يتطلب من الداخل الكردي العمل على توعية الذات وتجميع الإمكانيات لتكوين قوة تحترم خارجيا، وترهب الأعداء.
فعلى ما تم التعامل عليه مع الدول الكبرى خلال السنوات الماضية يجري الحديث، معظمنا ندرك وجلهم يعرفون مكانتنا كقضية وأمة بل وثقلنا مقابل أعداءنا، وعلى أسسها يسخروننا ومعظم المنظمات الموجودة في الشرق الأوسط كأدوات، ويستغلوننا مع تقديم المواد، إن كانت أسلحة أو معدات أو أموال، وهنا فالنبيه من بيننا أو المدرك لقيمة خدماته يحاول أن يطلب مقابل ما قدم من خدمات، كالتي قدمناها لهم وللعالم أجمع في عمليات القضاء على داعش، وحيث الألاف من الشهداء والجرحى، والعائلات المعانية، وهي في الواقع كانت تضحيات لإنقاذ شعبنا قبل أن تكون حماية لمصالحهم، بغض النظر عن المفاهيم والإيديولوجيات الطوباوية التي سايرتها، وإن كان البعض منا يقول أننا انجررنا إلى حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ونحن نراها كنا أمام مصير كارثي إما البقاء مع التضحيات الهائلة المؤلمة والكارثية أو شبه الزوال. وعلى عتبات هذه علينا أن نحث من خدمناهم كأدوات على العطاء بالمقابل، إن لم تكن صداقة وشراكة، لتكن تجارة ومصالح مقابل مصالح، أو بشكل أقل دبلوماسية، أجورنا.
لا شك نتحدث عن إمبراطورية، وليس عن أعداء الكرد المعروفين، والكل يدرك أن السياسة جلها لخدمة المصالح، ومحاولة إقناعهم في مساعدتنا أو بلهجة ذليلة إنقاذ شعبنا وأهلنا في الوطن، ليس استجداء بقدر ما هو تلاقي المصالح، وكل الأعمال والكتابات من ضرورات اللحظة، ولا تفضل عليه توعية الأمة في هذه اللحظات المصيرية.
وعلينا جميعا كحراك ثقافي تقييم واقع الحراك السياسي الآن وفي هذه الظروف، وتوضيح ما هو لصالحنا وما يدخل في خدمة أعداءنا، لكن لا بد من الابتعاد عن تصعيد الخلافات التي أدت إلى ما نحن عليه، فهي التي عمل عليها الأعداء وبنوا عليها خططهم في محاولات تدمير كردستان، وأن أستمرينا سيحصلون على تبريرات لغزواتهم لجغرافيتنا بشكل أو أخر، ولهذا فاتهامنا لطرف من أطراف الحراك الكردي قبل الأعداء تعتبر جريمة بحق الأمة خاصة في هذه اللحظات. وتوصيتي ألا نقف في هذه الظروف العصيبة مع طرف من الحراك الكردي ضد الأخر، ولا تعني هذا أن نتخلى عن محاولات تصحيح الدروب، وتقييم الواقع، والحث على تقبل الأخر، وإعادة البعض عن عنجهيتهم في قيادة المجتمع بشكل فردي. ولربما من الأفضل رفع العلم الكردي بدل الجاري، وحتى لو كان بالإمكان ورغم خطورتها تقبل مشاركة البيشمركة، بل لندرس مدى فائدة وأهمية تغيير أسم الـ ي ب ك الآن إلى البيشمركة.
نتمنى من الإخوة، في تجمع الملاحظين، الذين يأثرون توعية المجتمع على الحراك الدولي الدبلوماسي أو السياسي، أو يجدون أن نقد ترمب، ودراسة مجريات الأحداث الداخلية بين القوى السياسية الأمريكية والمؤثرة على مجريات الأحداث في كردستان سذاجة، أو كما تم وصفه بمثال، للأسف، مبتذل، أن يقدموا مشروعا وطنيا منطقيا، يخفف من التآكل الداخلي، فإلغاء التعامل مع القوى الكبرى والتركيز الكلي على الداخل، حتى ولو كانت تحت مسوغة توعية المجتمع، ستخلق نواقص لا تقل عن عملية الاعتماد الكلي على القوى الخارجية لإنقاذ الذات.
لا أحد ينفي أن التركيز على الداخل وليس الخارج هو الحل الأنسب لمستقبل الأمة، لكننا الآن نعيش الكارثة، ولسنا في مرحلة الهدوء مع الأعداء للعمل على تكوين حراك بمتطلبات العصر. لكننا نرى أن من مهماتنا الأولية كحراك كردي الآن هو إنقاذ المجتمع قبل الحراك؛ ومحاولة إقناع القوى الكبرى على مساعدتنا لإنقاذ المنطقة من شرور الأعداء، فبقرار جدي ملائم من ترمب أو بوتين ستتغير المعادلة وقد يخلق الأمان والاستقرار في المنطقة.
وبالمناسبة، لسنا نحن الكرد من ينتقد ترمب، ويحاول إقناعه لتغيير مواقفه الخاطئة بالنسبة لمستقبل أمريكا قبل مستقبل الكرد، ولسنا من يتهمه بالعنجهية والسذاجة والعنصرية وتفضيل مصالحه الشخصية على الوطن، بل حزبه ومنافسيه في الحكومة، وفي الكونغرس، وأطراف لها ثقلها على السياسة الأمريكية والعالمية، إلى جانب منظمات لها هيبتها وكلمتها، تتحرك يوميا وفي كل الاتجاهات، إما لعزله، أو لحثه عن مواقفه الخاطئة بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية، وإرضاخه على مشورة إستراتيجييه قبل إلقاء التصريحات المصيرية المتناقضة، هم الذين يقولون أن الشعب الأمريكي أبتلي برئيس ضحل الثقافة، غريب الأطوار.
مع ذلك الكرد حاولوا تقديم كل الخدمات لإدارته، وتأمين كل متطلباتها، وربما من بين أخطأنا العديدة أننا لا نعرف الخباثة الدبلوماسية في التعامل، ولم نتمكن من إقناعه على أن مصالحنا تتلاقى أكثر مما يتوقعوه، وأن التخلي عن الكرد وبهذه السهولة ستكون بداية لتدمير أكثر من شرق الفرات، قد تمتد إلى الإقليم الكردستاني الفيدرالي، ولا يستبعد أن تكون خطوة لتدمير دولة إسرائيل، وهيمنة الإسلام التكفيري على المنطقة، والتي ستكون منبع للإرهاب العالمي، هدفها وجهتها نحو دولة ترمب ذاتها، والدول التي تتخلى عن الكرد اليوم، والمذنب هو ترمب قبل أردوغان وقبل العالم اللامبالي بما يجري في شرقنا.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
19/10/2019م