وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 » – 17

ابراهيم محمود
17- على معبَر سيمالكا، عبوراً إلى دهوك مجدداً 
خرجْنا من حيث كنا “الأربعاء 7-8/ 2019 “، وداخلُنا أمم هموم وقلق وأثقال فراق، وصك وداع ثقيل دوري، لا ندري متى يُحسَم أمره. وكلنا انشغال بالمعبر، وعبء الانتظار. وقد أردنا بلوغه سريعاً. حيث كانت سيارتنا ” التي أقلَّتنا ” تنهب الطريق، لئلا ينهبنا الوقت، وينهبنا الانتظار. وأعددنا أنفسنا لوضع آخر. كيف يمكننا العبور الذي يستغرق ساعات. وهو يوم مشهود له بالتعب والإعياء، ومن الصعب أن تجد من لا ينقسم على نفسه، وفي روحه، ورغم كل ذلك، فإن النقطة ” الحدودية ” تفرض عليك أحكامها، ومناخها: أن تلملم شتات نفسك، وأنت تسجّل اسمك، وأنت تنتظر “رقمك ” وأنت تعبر صحبة أمتعتك، وأنت تضغط على نفسك وسط زحام البشر في يوم ” الحشر ” هذا .
هذا النزيف البشري ” الكردي إجمالاً ” لا يُنظَر إليه في حقيقته إلا باعتباره نزيف بشر من نوع آخر، في وضع نفسي آخر، وفي مكان آخر، نزيف لا ينقطع، نزيف يومي. أن تمضي خارجاً، أو تأتي من الخارج، وأنت تحضّر نفسك لسفر آخر، وآخر، حالات، لحظات، مشهديات، تمضي بالناظر إلى ما وراء المنظور، إذ تُرى عائلات، أفراد عائلات، أشخاصاً بمفردهم. من رافق أهلاً له، أو من هو وحيد. أجيال متداخلة،.
ثمة من لا يصدق متى يكون العبور، وهو يحاول بلوغ محل إقامته، في جهات مختلفة.
نفسيات تعبّر عن أحوالها، عن طبيعتها. من يظهِرون أنفسهم غرباء على المكان، من يتعالون على سواهم ” فقد تأوربوا “. من خلال حركاتهم، طريقة الكلام، أو التصرف. ثمة من كان يرفع صوته بأنه سيتأخر عن موعد طائرته، وهو ادعاء في الأغلب، من يتكلم بطريقة كما لو أنه ليس من أهل المكان، لم يمض عمراً هنا، وحتى إظهار نبرة تهديد، نريد العبور سريعاً…بسيطة ربما نجدكم يوماً في ” ألمانيا “، أو غيرها.. علينا ألا نكون كغيرنا… أحاديث من هذا القبيل، وضغوط على ” شباك ” تسجيل الأسماء، والقيام بالمعاملات المطلوبة.. كان هناك انضباط يحسَب له: الرجاء التزام الدور.. كلم على العين والرأس.. كلكم سواء…الدور الدور، أيها الأخوة والأخوات… لكن المعبر يعرّي هذه النماذج ” البشرية، حيث لا ألمانيا، لا السويد، لا هولندا، ولا حتى أميركا، قد أفلحت في تعليمها أخلاقية الدور، وأخلاقية الظهور أمام الآخرين، بأنها ليست وحدها، أن هناك حدوداً لأي تصرف وهي وسط هذا التدفق البشري إلى الحدود.
Hûn hemû li ser  ser û çavan hatine, gelî xuşk û birayên hêja, lê li ser dorê bimînin…
ورغم كل التنبيهات، التوجيهات، الرجاءات، كان من السهل رؤية من لا يريد أن يكون كغيره، وهذا داء أخلاقي، ليس من الصعب  التحرر منه، وهو الذي يسهم كثيراً في الدفع بالعلاقات الفعلية نحو أكثر من جهة صادمة .
ووسط هذا الحضور المتزايد، والحر له فولكلورياته، حيث الظل كان يبدو منحسراً بتأثيره. كانت رؤية الحضور لافتة، من خلال الأمتعة التي جيء بها. أحمال كثيرة، من الحقائب، إلى أكياس مختلفة الألوان والأحجام، وأوعية مختلفة الألوان والأحجام بدورها، تحمل الكثير مما ينتمي إلى ” روجآفا “: المخلل، الجبن، الزيت، الزيتون…الخ. فهذه المواد التموينية الطابع، وما ليس مرئياً، علامات تأكيد لشيء آخر، بالنسبة للذين على  الانتظار في الطرف الآخر. فالجبنة، مثلاً، بغضّ النظر عن طعمها المختلف، ورخصها في روجآفا، مقارنة بسعرها في دهوك وغيرها، تعلِم من ينتظرونها، ومن يرونها في الطرف الآخر من النهر، أن هناك حياة، حيث تتعدى الجبنة اسمها، وأن هناك ما يستحق التقدير في كل ذلك، وفي زيارة لها زمانها، وهي لا تتحقق بسهولة .
في الجانب الآخر، أنظر إلى سيارات / مركبات طويلة، ومكشوفة، وهي تحمل حيوانات: خرافاً، أكباشاً، عجولاً، لا بد أنها في حقيقتها مرسلة ” للذبح ” فعيد الأضحى على الأبواب، وثمة توقير كبير له، من هذا الجانب.
تخيلت مشهد هذه الرؤوس وقد انفصلت عن أجسامها، والدماء التي تتدفق في جملتها. فنحن، نحن لحميون، نحب اللحم، ونظهر احترامنا لأنفسنا، وللآخرين، من خلال اللحم المطبوخ، خصوصاً إذا كان لحم غنم، أو عجل، خصوصاً إذا أكدنا انتماءنا، وباعتبارنا ” مسلمين ” على أثر هذا الذبح المبارك…تخيلت كل ذلك، والنزيف الحيواني، ودلالته، وربما انقراض الحيوان ذات يوم، جرّاء هذا التكاثر في البشر، وهذا الاستهلاك غير المدروس للحم.
قرأت قبل فترة كتاباً رهيباً للمفكر الفرنسي الراحل جاك دريدا، ظهر بعد وفاته، أي سنة ” 2006 ” بعنوان غريب وصادم لأذواق كثيرة، وهو : الحيوان الذي أنا عليه L`Animal que donc je suis. يتحدث بإسهاب، عن فكرة ذبح الحيوان، والعنف المرافق لعملية الذبح هذه، وكيف يجري النظر إلى الحيوان بعد ذلك.. وقرأت في ضوء هذا المقروء عشرات المقالات المتعلقة بالكتاب وما ينيره.. وأنا في الوضعية هذه، وإزاء عملية الذبح/ القتل طبعاً، أورد فقرة من مقال قرأته، للنظر :
le rapport aux animaux les réduit à « des corps de chair comestible », leur mise à mort parait dépourvue de signification particulière et relève d’une simple nécessité ou renvoie à une dimension culturelle valorisée. Le rapport à l’animal s’inscrit donc dans une représentation technique du monde, de la nature et du vivant dans laquelle ce qui est se trouve pensé à partir de l’utile et du manipulable (Derrida pouvant rejoindre ici certaines des analyses de Heidegger). Mais pour Derrida ce rapport à l’Animal sert aussi à mettre en évidence la nature d’un pouvoir fondé sur l’extrême violence puisqu’il se définit comme pouvoir de mettre à mort et de dévorer une partie des vivants.
وترجمته :
(إن العلاقة بالحيوانات تقللها إلى ” أجساد من اللحم الصالح للأكل “، ويبدو أن قتلها يخلو من أي معنى معين وهو مجرد ضرورة أو يشير إلى بعد ثقافي قيمي. وعليه ، فإن العلاقة بالحيوان هي جزء من التمثيل الفني للعالم ، والطبيعة ، والمعيشة التي يُفهم فيها ما هو مفيد ويمكن التحكم فيه (يمكن أن ينضم دريدا هنا إلى بعض تحليلات هيدجر). لكن بالنسبة إلى دريدا ، فإن هذه العلاقة بالحيوان تعمل أيضاً على تسليط الضوء على طبيعة القوة القائمة على العنف الشديد لأنها تعرف نفسها على أنها القدرة على القتل والتهام جزء من الأحياء ).
لم أسترسل عبثاً فيما أنا فيه وعليه، وأنا في منطقة، شهدت وما زالت تشهد حضوراً وتنامياً مكثفين، لبشر من نوع آخر، يستسهلون ليس قتل بني جلدتهم، وإنما ” ذبحهم ” والتكبير لذلك، هي عملية لا تنفصل عن تلك، لمن يمعن النظر فيها. فهذه بدورها أضحيات، لتسهيل الدخول إلى ” جنة ” مرتقبة…ألخ .
كنت أعيش مع خيالاتي، وأفكاري، ووجدت نفسي في أكثر من لحظة مدفوعاً إلى مراعاة ما أنا عليه، أي تسهيل عملية العبور، وسط أحمال وزحام وسياط حر، وانتظار… وقد تطلَّب منا ذلك ساعات، حتى انتقلنا إلى الجانب الآخر، وبي مرارة من هذا الانتقال، وتداعياته النفسية، حيث حدود وهي ليست حدوداً فعلية، حدود رسمت خنادقها، أنفاقها، زواريبها، تصدعاتها، آلامها المروعة في داخلنا .
آلام وأوجاع تتكرر، يومياً، وكل حسب وعيه، ومدى أهليته للنظر في وضعية كهذه، وثمة  آخرون: كرد من لحم ودم، ليس لديهم أي استعداد للتفكير في خاصية كهذه، بالعكس، إنهم يجدون بغيتهم، فرصتهم التي تمكنهم من التحرك في أكثر من جهة، وبالطريقة يصعب علينا الثبات في الجهة التي تعنينا، وبنا شوق مسمى إليها. أدع التكملة لمن لديه فضول .
” انتهت  “

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…