ابراهيم محمود
16- بورتريهات وجوه
18ً- وجهي، بأي وجه تكون قامشليُّه ؟
لعام 2019، أعني تموز هذا العام، أعني الكثير من التصدعات المكانية المجلجلة أبعد من حدود قامشلي. كيف يمكنني أن أتدبر وجهي، أمره، صورته الفعلية؟ ففي كل ما ذكرت، وفي كل ما يمكن التذكير به، وما لا يمكن التذكيربه، ثمة وجه ينتظرني، يصل ماضياً بحاضر، وليس الماضي بمؤانس في ضوء الحاضر الخانق، وليس الحاضر بمعطي فرصة التعاطي مع ما كان، فكيف لي أن أجمع شتات وجهي، حيث تقوم حارات قامشلي، وجوهها، وهي تنزف حيواتها؟
أكثر من سندباد البري/ البحري/ الفضائي كنت، علّي ألامس وجهاً يريحني ” في الأمس ” وما يصله بغده، فلم أظفر بالمفيد: من كورنيش، إلى علي فرو، إلى هلالية، وعبر مقبرتيها، ومن ” ميركَا حلكو ” إلى حي المصارف، والبيوت المجاورة المحاصرة لمقبرة زنود ” زندا ” القديمة، إلى حي طي، حي الثورة، حي المحطة، والمنطقة الصناعية، عبوراً لمجرور جغجغ في الاتجاهين، ومن حي الشمالي، إلى الوسطى، إلى حي الأربوية، فالبشيرية، فقدور بك، إلى الأبعد من كل ذلك، وليَ في كل حي ما يحيي ويميت. لكم أمعنت النظر في مقابر قامشلي، ما ذكرت، وما هو بالتوازي: مقبرة الأرمن، مقبرة السريان، ومقبرة قدور بك ” الإسلام “.. أرأيت كم هو موجع هذا الانشطار، والأرض واحدة، والموت واحد، والجميع واحد، وفي كل مقبرة معارف، أصحاب، من لهم مكانة، من ماتوا منذ عقود من الزمن، ومن ماتوا حتف واقعهم ذي الألف حربة وحربة نافذة، فوجدت العبوس في كل جهاتها، فأخفقتُ في إيجاد وجهي، وأنا في هول الممتد مقابرياً، وما يفعله الأحياء بموتاهم، في تفريق مقابرهم مذاهبياً ؟ .
“هنا، هنا، في هذا المكان العاري، يقيم وجهي “
أتراني أستطيع السعي إلى كل من ذكرت، ومن يمكنني التذكير بهم، من تشتتوا بأجساد ملؤها انجراحات، ومن تشتتوا في المكان عينه، ومن هم قيد التشتت. لكم رثيت المكان.
وجوه تكاد تفارق وجوهها، مأخوذة بانشقاقات الزمان، في أكثر من حالة بابلية وانخسافها.
أمكنة تلاحقني بأسمائها وهي ثقيلة كالرصاص اللاسع اللاذع، مجردة ما إمدادات ذكريات تضمن سلامة الروح وأهليتها المطلوبة في الاستمرار:
من شارع عامودا، إلى شارع السياحي، فشارع الوحدة، وشارع طي، والجسرين وشارع المحطة…ألخ، شوارع منكوبة مضروبة على أدمغتها .
من الحواجز المرئية، إلى الحواجز المنصوبة في النفوس. كم تتكاثر الحواجز هنا !
من الجنوب، حذار من التقدم دون يقظة، ومعرفة الذهاب دون رجوع سالماً.
من الشمال، حذار من الاقتراب، دون توقع موت حتمي، أو ما يشبه رعب الموت.
من الغرب، حذار من التحرك، كما لو أن ليس من أحد، يستوقفك، ويكدّر عليك ” عيشتك ” .
من الشرق، حذار من المضي قدماً دون معرفة ما يمكن أن يصيبك بالغثيان وما يرادفه .
أحياء كردية، أحياء سريانية أرمنية، أحياء عربية، وليس من حي مفوَّض بأن يمنحك فرصة التقاط الأنفاس، كما لو أنك في وضع آمن. أحياء بأسماء مختلفة، وهاجس الخوف قاسمها المشترك. فأي تفريق بين حي وحي، إلا بدرجة التخوف والخوف من الآتي/ المجهول ؟!
وأنا المأخوذ بحزمة هذه الأحياء، وليس من ناظر في حساب اعتباري للمقرب فيما بينها ؟
الشمال اعتلال، والجنوب خطوب، والغرب حرب، والشرق فرْق وخرق، فكيف لوجهي أن يلبس حياته التي تمنحه صفاء الرؤية، وقلبه، سوية الخفقان ؟
ليس لي في كورنيش، وقد نثرت في زواياه، شوارعه، عقوداً من العمر، إلا التحسر على ما كان، وليس من ضمان لتحصيل نظيره .
أنطلق صوب مرحلة عمرية، أمر بجوار ” مدرسة عربستان “، أستدعي وجوه زملاء دراسة، ما أكثر الذين تبعثروا، أو تبخروا، أو تعتَّروا، أو تمرمروا، وأقل الذين سلموا ولو نسبياً .
أنطلق صوب معهد أعداد المعلمين الذي كان، معهد الفنون النسوية الذي كان، فلا أرى سوى ما لا أريد أن أرى.. أين هي وجوه الزملاء- الزميلات، الطالبات المتخمات بالحياة، وقد تناثرت رغم أنوفهن في جهات الأرض الأرض؟
أسمع من جهة المقابر، وبإيقاع واحد صوتاً صادقاً، دقيقاً، حزيناً: لكم نخشى عليكم أيها الأحياء! يرعبني هذا الصفاء الجارح، هذا النور المشفَّر والمؤلم كالحقيقة . أي أصناف موت نعيش ؟
كما لو أن قامشلي في مجموعها، تتقاسمني، وأنا أنتشر فيها، وليس من حافز يعيد إلي وجهاً، لكم أتمناه، لأحسن النظر، ليس من عذر يغريني لأن ألتفت دون خوف، والجهات مهزومة .
أخرج صحبة عائلتي، وبي الكثير مما تعتذر اللغة عن وصفه، لوطأته، وبي شوق يبثني وعداً ما، يمتد إلى الآتي، وعداً بقادم أيام، كما لو أن المكان يسوطني عتاباً .
سلام للأصدقاء، الأحباب، المعارف، الأمكنة بشوارعها وزواياها وساحاتها.
أيمكنني العودة سنة أخرى، وبرغبة ممهورة بأمل ما، وتكون وجوه قامشلي غير ما هي عليه ؟
……..يتبع
19- على معبَر سيمالكا، عبوراً إلى دهوك مجدداً