ابراهيم محمود
16- بورتريهات وجوه
13″-وجه فرزند درويش، بين الأرض واللوحة الفنية
للأرض حضورٌ مكثَّف في حياته، كونه ينشغل بالزراعة كثيراً. تبقى الجملة ناقصة هنا، وهي التي تميّزه عن أغلب، وأكاد أقول، كل الذين يعملون في زراعة الأرض، بصفة ” مزارع “، وهي أنه مأخوذ بفن الرسم، ومن هذا الباب الذي يدفع بالمعني به إلى ما وراء المرئي في الأرض والذين تقدَّر حياتهم بالسنين والشهور والأيام، ليعيش في ذاته كيفية تصريف صلاته بما هو أرضيّ، تلوينات، تصبح ” أرض اللوحة ” متنفَّسَه، ودخوله في حياة من نوع آخر، وعبر هذا الباب الواسع، أبعد من كونه باباً، أمضي إليه وأسمّيه هنا الصديق الفنان فرزند درويش.
لعلها عقود من السنين، وهي التي تضمخت بعلاقات، وحكايات، وأحاديث تعدَّت مكتبه في شارع ” التجّار “، وأنا أجالسه، وثمة آخرون لهم موقع آخر لديه، وكان فيما يدار ويثار من أحاديث أمرٌ عجب أحياناً بالنسبة لي. أن يحادثهم في شئون الزراعة، وطبيعة الأرض، وأن ينتقل من جانب آخر إلى الحديث عما هو اجتماعي وسياسي كردي بألفه ويائه، إنما في ذات اللحظة، ومن خلال إشارة معينة، يحضر الفنّي، وصلة الرسم بما هو نفسي، بالمكان، وكيفية استنطاقه كردياً.
عبر هذا الباب المفتوح على مصراعيه يكون للصديق فرزند درويش بابٌ حياتي، وإطلالة على حياة لا أظن سواه بقادر على إقامة علاقة معها، أو طرق بابها، أو التحاور معها.
وحين آتي على ذكره، فلأنه يشغل ذهني وخاطري، من مستجدات قامشلي بالذات، وكيف يستمر في تنمية علاقاته بالأرض، دون أن يدير ظهره للوحته، مهما ضعُفت العلاقة هذه، وبالتالي يكون من الصعب علي أن أفكّر في هذه المدينة المسحوبة من ” أنفها ” كثيراً، أن أؤاسي نفسي، أن أهدّئها، أن أعيش هاجس السوق فيها، دون أن تمثُل صورته أمام ناظري.
فيما خطه هذا الصديق لنفسه يبقيه في مضمار عالم آخر، بهدوئه، تعبيره الدقيق عما هو معاش يومياً، وأشعر به، حيث يأتي دور اللوحة، وكيفية تعامله معها، كما لو أنه منجرح داخلياً، كما لو أن هناك شكوى عالقة في البرزخ الفاصل بين الشيء واللاشيء، شكوى بليغة تقول التالي: كيف يمكن للوحة أن تحضر إلى ساحة ملغومة، في ليل لا يعرَف ما إذا كان له من نهار، أو ما إذا نهاره يصله بمطلع ليله، واللوحة ككيان وجداني لا تدخل طوع إرادة التعبير اللوني، إلا حين تتوافر الأرضية التي تطمئنُها، تمنحها ” كلمة شرف ” من نوع آخر، لتكمل طقوس ولادتها.
الصديق فرزند، رغم قلة رسوماته، لكنها تعرَف بتمايزها، يعلِم الناظر في بنيانها، ما تعنيه القلة من اللوحات، وطابعها الرمزي بالنسبة إليه، وهو في شاغله الكردي، وقد أمضينا هذا الصيفية أكثر من وقت إضافي بهذا الصدد وأبعد، ومعنا الصديق الآخر لوند داليني.
أسمّيه في بيته، حيث بهو البيت يوسّع فضاء للوحات تحملها جدارنه.
هناك لوحة تمثّل زرادشت، ولوحة تمثّل القاضي محمد، وغيرهما. وإن كان هناك من فسحة أخرى في مقام الحلقة هذه، تضيء معلَمه الذوقي المغاير، فهي في توجيه النظر إلى لوحته التي تمثّل رأس كبش، وأخرى، رأس نسر. الكائنان حاضران بقوة في مجتمعنا. الأول أرضي، والآخر هوائي. الأول مجاور التراب، والثاني يحلّق في الفضاء، ناريّ الهوى .
يمكن تلمس طريقة إخراج القرنين، وما في ذلك من تحد للفراغ، ومن إبراز البياض الخاص للصوف الذي يصل راسه، كما لو أنه زبد بحري، موجي، أن يستقرىء قوة ما في عينيه، وتلك الدقة الإبرية في فرز الألوان، فلا يعود رأس الكبش عادياً، إنما ناطقاً بلسان رغبة لا تتأتى لأي كان، رغبة محلومة، ومهضومة، ويعيشها كل ناشد صحة من نوع خاص.
ولرأس النسر، ومنقاره ذلك المقام الموازي، حيث المنقار بدقته ومعقوفيته، والعين التي تحيل المكان الرحب إليه، وانتعاش الريش الذي يصل مشارف رأسه، ما يخرجه من طيريته، أي حين يصبح الرأس النسري هنا خروجاً من المكان نفسه، وتمكناً منه في آن، وما في هذا المنحى من احتجاج على الدائر أرضياً، كما لو أن لدينا كبشاً ” يطير ” ونسراً ” يسير “.
هل من غرابة إذاً، أن أسمّي فرزند غالب درويش صديقاً وفناناً وهو بعالمه الواسع المدى هذا؟
ملاحظة: ليس من علاقة بين لوحه رأس النسر ولوحة زرادشت، إنه صنيع الكاميرا فقط .
……… يتبع
14″- وجه لوند داليني، والرهان على ألم الخريف