وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 » – 16/12

ابراهيم محمود  
16- بورتريهات وجوه  
12″- وجه د. أنطوان أبرط، الإشراقة الودّية 
في مدينة تعرّف لك بنفسها تعددياً، اثنياً، دينياً، كون معادلة التواصل بين وجوه هذا التعدد محك النظر الأثير في الواقع، في الشعور بأهلية اجتماعية وسويتها، يكون لكل وجه ما موقعه المختلف. ولوجه الصديق الأرمني الدكتور أنطوان أبرط ” طبيب سنّية ” اعتباره الذي لا يجارى. وجه لطيف، وجه هذا الأشقر الحيوي، وجه مهني فالح، ووجه اجتماعي ناجح، كما أنه وجه ثقافي لافت، قل نظيره في هضم القراءات المختلفة، ومتابعة ما هو ثقافي: مسرحي بصورة خاصة، وسينمائي ضمناً. 
هو بدوره فارقَ المكان ليصبح وجهاً له اعتبار سويدي، بصفة عائلية، وجه كآلاف الوجوه، مئاتها، غادرت المكان إلى أكثر من مكان جغرافي، حيث لم يعد هناك من مكان إلا وتحل فيه وجوه قامشلاوية، أي مكان: أوربي، أميركي، نيوزيلندي، أفريقي’ آسيوي….الخ، ليكون لدينا شعْب وجوه بالجملة والمفرَد في بلاد أخرى، وفي غمرة لغات أخرى، وعذابات أخرى. غير أنه إذا كان لكل ما أشيرَ إليه من أثر يسمّيه المكان ” البلدي- القامشلاوي “، يبقى لوجه أنطوان حضوره المائز. وهنا لا أتحدث عن كونه مهنياً ناجحاً، فثمة آخرون، وهم بدورهم معارفي، أصدقائي، غير أن متعة اللقاء به، تسمّي المختلف في وجهه، أعني به قابليته لأن يتفاعل معك، أن يتجاوب معك، أن يتحدث معك بلغتك ” قلة قليلة مما أعرفهم، تمكنوا من تعلم الكردية، ومحادثة ” زبائنهم ” بالكردية، وهو يعالج أسنانهم “. إنه بعد آخر، يزيد في الرصيد الاعتباري لهذا الصديق الأرمني السوري غنى وثراء أثر، بعد يترجم استعداده في إقامة علاقة مع أي كان، وهو بلغة أخرى، وهي حالة ندرة. وهذا الجمع الأليف الطريف بين جملة مواهب ” أشير إلى كونه قاصاً بالمقابل، ولقصصه التي أسمعنا إياها، أو قرأتها في عيادته، أو تحادثنا حولها في بيته الجميل في حي ” الوسطى ” جمالية تذوق ” هذا الجمع الأليف يعزّز حضوراً اجتماعياً، ويسمّي نقاط استناد اجتماعية، كما لو أن كل وجه، حين يتقدم إليك، أو يعرّف بحقيقته الفعلية، يضفي على المكان طابع الهدوء والاستعداد للعيش، أعني به، للامتلاء بالحياة. كان الصديق أنطوان من جبلّة اجتماعية، ثقافية ومهنية أخرى مغايرة ومأخوذة بعين الاعتبار. كان له جسره المديد، حيث يصله بكثيرين، ويمكّن كثيرين من لقاء آخرين وآخرينمن خلاله، من خلال أنشطته الاجتماعية، وحضوره في مناسبات ثقافية.
هذا الوجه الأرمني ، الأشقر الذهبي بمعدنه الروحي، هو الآخر، أصيب بعدوى، ليس السفر، وإنما الارتحال حيث يكون المقام الآخر له، عدوى أصابت كثيرين، وأنهت حياة كثيرين قبل بلوغهم شاطىء أمانهم الخاص، الوجهة المطلوبة، وليس استثناء منها، سوى أن وجه أنطوان ليس كأي وجه، وليس من جملة وجوه متساوية، إنما جامع وجوه، مستقطبها، ومعطي المكان بمساحته الاجتماعية الواسعة، ذلك المدد الذي يعطي المتعامل معه مبرّراً لأن يعيش بسوية روح، وأنا هنا أشدد على البارومتر المجتمعي ونقاط ارتكازه في سواء وضعه. 
هذا الوجه بدوره، اختار وجهته التي تليق به، وقد انقلب المكان على مكانه، حيث لم يعد الشارع الذي يؤدي إلى عيادته وهي في الطابق الأول، بجوار ” جغجغ ” ووسط محلات نشطة، لم يعد هو الشارع نفسه، لم تعد العيادة ذاتها، هي ذاتها، وقد خسر الكثير من ” الزبائن ” في وطأة الأحداث التي خلخلت المكان. ووجه كوجه أنطوان وهو بدقة واستطالة نظره، يأخذ بالمكان، وهو يقلّبه على وجوهه، وحين يجد فيه ما لم يعد مسمّيه: المكان الذي كان، تكون الصدمة، يكون الإيذان بلزوم مفارقته. إذ المكان نفسه متحول. المكان يحتضر، يمرض، ينزف، يكبر، أو يشيخ، أو يتصدع، أو ينصدم بالمستجدات، أو يغيب عن اسمه وخاصيته. يموت شهيد عنوانه، من هم فيه، يموت مأخوذاً بداء الانفطار الاجتماعي، ويحل سواه محله، وهو الذي دفع بهذا الصديق الأرمني إلى مفارقته اضطراراً، وهو الذي يبقيه بعيداً بعيداً عنه، وقد رأى فيه ما لم يكن يريد أن يراه، استحالة العودة إليه إلى أجل غير مسمى. هكذا يعلِمه المكان ويصادق عليه .
………. يتبع
13″-وجه فرزند درويش، بين الأرض واللوحة الفنية  

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…