داعش … فكرٌ متجذر وتهديد قائم ودائم

شاهين أحمد
صدر مؤخراً تقرير عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تضمن مؤشرات خطيرة جداً عن احتمال عودة قوية لتنظيم داعش من جديد في سوريا والعراق، وإمكانية سيطرته على مدن رئيسية ومساحات واسعة في البلدين بصورة مفاجئة في حال انسحاب القوات الأميركية من سوريا في هذه المرحلة. المعلومات الواردة في التقرير المذكور، سواءً لجهة آلاف المجاهدين، أو لجهة المبالغ المالية الكبيرة التي مازالت بحوزة التنظيم المتطرف، تثير الكثير من القلق والدهشة والاستغراب، كما تضع المراقبين أمام جملة من التساؤلات المشروعة وخاصة أنها تأتي بعد أشهر قليلة من إعلان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على هزيمة التنظيم الإرهابي بصورة تامة من بلدة الباغوز في شرق سوريا. 
كيف تمكن تنظيم داعش من تجميع كل هذه القوة القتالية والمالية خلال أشهر قليلة فقط، وخاصة عقب الحروب الطاحنة ضده طوال قرابة خمس سنوات، والهزيمة النكراء التي ألحقت به؟. ماهي الأهداف الكامنة وراء صدور هكذا تقرير مثير في هذه المرحلة التي يجري فيها حراك قوي داخل أروقة دوائر صنع القرار في الإدارة الأمريكية بخصوص عملية سحب القوات من سوريا ؟. ولكن هل داعش حقاً هزم وانتهى، أم أنه تلون واختفى؟ هل شعوب المنطقة أمام حلقة جديدة من مسلسل الحروب والإرهاب، وخاصة أن قرار الانسحاب يذكرنا بالانسحاب الأمريكي الغادر من العراق في عهد الرئيس الأمريكي السابق ” باراك أوباما ” الذي قدم العراق على طبق من ذهب لإيران ومختلف التنظيمات الإرهابية؟ 
بداية وكي نكون واقعيين في مناقشة هذا الموضوع ، وقبل أن ننضم إلى مجموعة المشككين بالتقرير ومحتوياته، وعلاقة كل ذلك بالحراك المذكور الجاري في أروقة الإدارة الأمريكية لحث الرئيس ترامب وثنيه عن قراره الإشكالي المتسرع حول الانسحاب من سوريا، وعدم إدراج موضوع الانسحاب ضمن أوراق الدعاية الانتخابية، والعواقب الكاريثية المتوقعة لهذا الانسحاب إذا حصل فعلاً، ودوافع الرئيس المتعلقة أساساً بالحملة الانتخابية التي ستنطلق بعد أشهر، علينا أولاً وقبل أي شيء، أن نتفحص التربة في بلداننا، ونتعرف على البذور المدفونة في أعماقها، وكذلك الجذور المنتشرة في مساحاتها، ومدى صلاحية هذه التربة واحتوائها للعناصر الغذائية الضرورية لنمو هكذا بذور، وإنبات هكذا جذور، عندئذٍ نستطيع الحكم على مدى صحة المعلومات التي تضمنها التقرير المذكور من عدمها .هنا من الأهمية الإشارة إلى نقطة هامة وهي أن الكثير من بلدان الشرق الأوسط مازالت تشكل البيئة الأنسب لتكاثر وتفريخ هذه الجماعات الراديكالية، نتيجة وجود عشرات التنظيمات السياسية التي تؤمن بالإسلام، وتعتمده منهجاً للعمل ونظاماً للحكم، وتعتقد أن الإسلام ليس مجرد عقيدة دينية روحانية فقط، بل يشكل منظومة متكاملة للحكم، صالحة لبناء المؤسسات وإدارتها لمختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية….إلخ، والاعتقاد السائد بأن الدولة الإسلامية القوية الجامعة هي السبيل الوحيد للمحافظة على الشعوب الإسلامية وحقوقها، ونعلم جيداً البيئة المثالية التي صنعتها الأنظمة الديكتاتورية بشكل عام، ونظامي البعث الشمولي في العراق وسوريا بصورة خاصة، وقبلهما النظام الناصري في مصر، وغياب الحريات، وانتشار الفقر والبطالة، ودوام حالة الحروب والصراعات، وغياب المشاريع والبرامج التي تعبرعن  طموحات شعوب المنطقة ، وفشل المشاريع الفكرية والسياسية التي عمل عليها المنظومتان البعثية والناصرية، كل ذلك أوصلت المواطن (الضحية) إلى نتيجة خطيرة وهي عدم الإحساس بالإنتماء الوطني، هذه البيئة هي التي شكلت مناخاً مثالياً لنمو نتاج فكرى تكفيري، مما يعني أن التقديرات والمخاوف  الواردة في تقرير البنتاغون تملك من الموضوعية والصدقية القدر الكافي ، لأن تنظيم داعش هزم عسكرياً فقط ، ولم يهزم فكرياً وعقائدياً، وإنه انسحب إلى مناطق نائية لأعادة تنظيم نفسه وقواته والعودة من جديد. وهناك الكثير من الدراسات من مختلف المؤسسات المختصة بشؤون هكذا جماعات، تؤكد أن تنظيم داعش لديه أكثر من ثلاثين ألف مقاتل في كل من سوريا والعراق. ويعتبر هذا الكم الهائل من المجاهدين كبيراً للغاية مقارنة بعدد هؤلاء في عام 2011، وكذلك المبالغ المالية التي مازالت بحوزة التنظيم المتطرف. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المناخات السائدة اليوم، ومقارنتها بتلك التي كانت موجودة في عام 2011، فإن مناخات اليوم مشحونة أكثر وتفتقر للاستقرار، وتساعد على عودة قوية للتنظيم المتطرف من جديد، وقد يكون بلبوس ولون ومسمى مختلف، وسيتمكن في زمن قياسي من السيطرة على مساحات شاسعة في العراق وسوريا حال مغادرة القوات الأميركية المنطقة. وفضلا عن آلاف المقاتلين المجندين في صفوف التنظيم، هناك اليوم مئات الآلاف من المتطرفين المنضوين والمختبئين تحت مسميات مختلفة في مناطق شمال سوريا بشكل عام، ومحافظة إدلب وأرياف المحافظات التي تجاورها بصورة خاصة، ووجود حاضنة دافئة لهذا الفكر المتطرف، وخزاناً بشرياً هائلاً لإمداد التنظيم المتطرف بالمقاتلين، نظراً لإفتقار هذه المناطق – إدلب ومحيطها – للحد الأدنى من الخدمات والحياة الكريمة، وعجز الإدارات الموجودة عن تلبية الحد الأدنى من تلك الاحتياجات …إلخ .والنقطة الأهم التي تساعد على تغلغل هذا الفكر المتطرف في الأوساط الشعبية الفقيرة، خسارتها كل ما تملك، وباتت تفتقر اليوم لأدنى متطلبات الحياة الكريمة، وغياب الأمن والأمان والتعليم، و فشل الدول أصحاب النفوذ في سوريا في التعامل الجدي والعلمي مع التحدي الأبرز في هذا الجانب، والمتعلق بإعادة تهيئة المتورطين مع الجماعات الراديكالية، من خلال مؤسسات مختصة تمتلك القدرات والموارد والخبرات الكافية لإعادة التأهيل، لقطع الطريق على التنظيمات الراديكالية من استغلال الأوضاع الإنسانية البائسة للسكان المحليين واستغلال حاجاتهم، وصولاً إلى تجنيدهم، وكذلك غياب مشاريع سياسية واضحة لمستقبل شعوب المنطقة، ودوام الشعور العام بالإقصاء والتهميش. والعامل الآخر الذي لا يقل أهميةً هو المتعلق بالجانب الآخر الدولي، وما رشح من طرف كبار الباحثين والخبراء وكبار الشخصيات في مجال السياسات والدراسات الاستراتيجية من أمثال مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر وماكس ما نوارينج الخبير في كلية الحرب الأمريكية الذي يشير بشكل واضح إلى اعتماد اساليب جديدة بدلاً من الحروب التقليدية من قبيل الإنهاك والتآكل البطيء والاستنزاف المتواصل….إلخ وصولاً إلى الهدف المحدد وهو رضوخ الخصم لإرادة الأمريكيين وهكذا الغرب بصورة عامة. من خلال متابعة آراء هذه الشريحة في المؤسسات التي تقدم لدوائر القرار رؤيتها حول اللوحة المثالية التي يجب أن يتم رسمها، والخرائط المطلوبة التي يجب وضعها لمناطق النفوذ في العالم، وبما تتناسب ومصالح الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ربما لم تفهم شعوب المنطقة حتى وقت قريب ماكانوا يقصدونه من المحاضرات التي ألقيت في الكثير من المنابر والمواقع الهامة من قبل هذه الشخصيات، وهؤلاء الباحثين، لكن مايحدث اليوم في المنطقة، يذكرنا بجزء مما سمعناه آنذاك، وبالتالي المصير الذي ينتظر شعوب المنطقة وسط غياب شبه كلي لثقافة التعايش وقبول الآخر، والمنطقة بكل تأكيد أمام تغيرات جيو – سياسية جذرية، وتحولات سياسية كبيرة، وما مناطق النفوذ في سوريا إلا بداية لهذه التغيرات لنصل إلى استنتاج بأن منطقتنا لن تنعم بالاستقرار في المدى المنظور، وأنها – منطقتنا – أمام حالة من دوام الصراع واستمرار الحروب لفترة طويلة، وكي تبقى المنطقة في دوامة العنف والصراع يجب أن تكون هناك أدوات تعمل بالوكالة عن أصحاب القرار من كبار اللاعبين، ومن هنا تأتي أهمية وجود واستمرارية المنظومات الراديكالية كـ داعش والنصرة وأخواتهما والمجاميع المتطرفة والعابرة للحدود، ومافيات الحروب والشركات الأمنية، وقطعان المرتزقة. وهنا على النخب الواعية لشعبنا السوري بشكل عام، والنخب الواعية والمعتدلة للمكون العربي السني الكريم بصورة خاصة، واجب التمييز بين القوى الإسلامية المحلية الناشئة والمعتدلة، وبين المشاريع العابرة للحدود، وتقطع الطريق على الحركات الراديكالية المعولمة الوافدة التي دخلت مفاصل المجتمع العربي السني، وخاصة أن تركيبة الشعب السوري مساعدة لجهة قطع الطريق على هذا الفكر المتطرف، نظراً للتنوع القومي والديني والمذهبي الذي يتمتع به الشعب السوري تاريخياً. وخلاصة القول يتوجب على النخب الواعية للمكون العربي السني تحديداً العمل على نشر ثقافة الاعتدال، وتأسيس تعبيرات سياسية – تنظيمية مختلفة، والتعاون مع كل الجهات التي تعمل على اجتثاث كافة التنظيمات الإسلامية الراديكالية، وأن تقتنع تماماً بأن زمن إقامة دولة الخلافة الإسلامية قد إنتهى إلى غير رجعة، وأن إقامة الدولة المدنية التي تحكمها القانون، وتسودها العدالة الاجتماعية، ومبدأ فصل الدين عن الدولة هو الحل والهدف.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…