فرمان بونجق
في مرويّةٍ أنّ كوردياً دخل على جمعٍ من أقرانه الكورد، وكان غاضباً حانقاً شاتماً، فبادره أحدهم مستفسراً عمّا به، فانهال على البعثيين الكورد بسيل من المفردات التي جادت به قريحته، ومضى من الوقت نحو ساعةٍ وهو في هذه الحال، وعندما هدأت سريرته، أشار إليه أحد الجالسين: منذ ساعة وأنت تشتم هؤلاء، ولا تعلم بأن هذا الذي يجالسك على يمينك واحدٌ منهم؟. فأُسقِطَ في يده، واحتار فيما ينبغي أن يفعله من هول الصدمة، فما كان منه ـ وبعفوية ـ إلاّ أن تقدم نحو البعثي الكوردي ممسداً على رأسه متمتماً بصوت معلول: فَديتُك يابُعَيْثي*. وأساس هذه المفردة أن بعثياً كوردياً حَطِئاً كان يقطن في حي الرجل، وهو الذي كان يسبب له الأذى، عبر تقارير يرفعها إلى مسؤوليه، ودَرَجَت تسميته في الحي آنذاك بـ بعسيكو.
مَرَدُّ إدراجي لهذه المَروية في صدر مقالتي هذه، كناية عن الدور الذي كان يؤديه هؤلاء من البعثيين الكورد، ذات الطبعة والطبيعة الانتهازية، إذ كان الكورد عامةً يخشون هذه الشريحة، ويمقتونهم، ويتحاشونهم، وكانوا يسعون جاهدين الابتعاد عنهم، لِما كانوا يؤدونه من دور قذر بالضد من أبناء جلدتهم، وحتى أقربائهم أحياناً، مما أكسبهم صيتاً مقيتاً. وأما أن الأسوأ مما قيل، أن هؤلاء أصبحوا شريحة ذو دور ممنهج في المجتمع، واستنسقوا في شبكات، ودفعوا العديد منهم لاختراق المجتمع سياسياً، واجتماعياً، ووظيفياً أيضاً، وقد يستغرب مستغربٌ من هذه الحالة المجتمعية الدخيلة، إلا أن البعث بقوته السلطوية، وإمكانياته، وأجهزته الرهيبة، وعلى مدى نصف قرن، استطاع أن يخلق هذه الحالة، ليس في المجتمع الكوردي فحسب، ولكنه خلق متشابهات لها في أوساط الآخرين أيضاً، فغدت منهجاً، وظاهرة شبه مألوفة على امتداد سوريا، وقد أفرزت ما أفرزت من عقليات شوفينية أمثال أسعد الزعبي وغيره، من المتعصبين للقومية، استناداً إلى فكر البعث ومدرسته وتعاليمه القوموية.
بفعل الثورة، وتراجعِ دور مؤسسات البعث، وأجهزته الأمنية القامعة في المناطق الكوردية، وتصاعد دور الحركة السياسية الكوردية، والتجمعات الشبابية، وكذلك هيئات المجتمع المدني، انكفأ دور هؤلاء البعثيين الكورد، وأحاط بهم شعور الخذلان، لما فعلوه ببني جلدتهم على مدى خمسين عام، تنقص أو تزيد، إلاّ أن هذا الانكفاء لم يدم طويلاً، إذ بدأ هؤلاء بالتسلل من الأبواب الخلفية لمؤسساتنا العريقة منها، والوليدة أيضاً، السياسية منها، والمدنية، والعسكرية أيضاً، ويبدو أن دورهم الجديد لا يتّسم بالمراقبة وكتابة التقارير فحسب، وإنما يتجسد بعمليات تخريب مقنعّة، وقد لا تظهر نتائجها للعامة على المدى القريب، ولكنها قطعاً ظاهرةُ وسافرةٌ لمن ينظر إليها بعين المراقب، وتجلّت مرحلياً بمحاولة إزاحة الشخصيات الوطنية، وأفراد عائلاتهم، وعائلات الشهداء والجرحى وسواهم، من جهة تحييدهم عن الحراك الوطني والقومي، باعتبارهم صاحب الإرث الاعتباري للمرحلة. وأعتقد، وأكاد أن أكون جازماً في اعتقادي هذا، أن إعادة تجميع صفوف هؤلاء الفلول استندت فيما استندت إليه مبدئياً، على ظاهرة المناطقيّة المقيتة، مع محاولة استقطاب بعض الشخصيات المعروفة بوطنيتها، وبساطتها حتى أكون دقيقاً، بقصد الاختباء خلفها، ولو جزئياً، وتمرير ما يمكن تمريره.
هؤلاء البعثيون الكورد، المُتهمون بالعنصرية، والانفصالية، من لَدن رفاقهم الحزبيين من غير الكورد، وعلى الدوام، لم تحرّك نخوتهم في وقت من الأوقات، وفيما بعد لم يحاولوا ـ مجرد المحاولة ـ التعبير عن ندمهم لبني جلدتهم، جرّاء ما فعلوا إبّان تواجدهم ضمن ذاك الجسم الحزبي، بل لجأوا إلى الاسترخاء إلى حين، على شكل خلايا نائمة، يتحيّنون الفُرَص للظهور مرة أخرى، وها هم الآن يَثِبونَ إلى مراكز القيادة رويداً رويداً، بطريقة تسويقية فجّة، لم تعد تنطلي على أحد، ولم تعد خافيةً على أحد، فيسوّق أحدهم على أنه كان قد حضر احتفال نوروز لثلاث سنوات متتالية، ويمجّد نفسه على أنه أسطورة، في الحين الذي كان مناضلو الكورد يدفعون السنوات تلو السنوات، من أعمارهم وأعمار عائلاتهم، في معتقلات النظام، ناهيك عن شهداء الانتفاضات المتعاقبة وجرحاها. والسؤال الذي لايزال يطرح نفسه وبقوة، وفي كافة المشاهد المقاربة لهذا المشهد: ما العمل؟.
لقد أشرتُ إلى حالة الاسترخاء التي انتابت الحركة السياسية مؤخراً، ولها أسبابها المنطقية أحياناً، وغير المنطقية أحياناً أخرى، إلاّ أنها وفَرّتْ الخاصرة الرخوة لتسلل هؤلاء، والاستيلاء على بعض المواقع، كمفاتيح لترتيب أوضاع جديدة، يمكن من خلالها العودة وبقوة إلى حالة سيطرة الحزب القائد، وربما بأشكال مختلفة، طبقاً للهوية الزئبقية المارقة لحزب البعث، وهذا ينطبق على معظم أعضائه المدجَّنين. وقد أشرتُ في موضع آخر إلى دور النخب السياسية، والثقافية، والمجتمعية، لتصدر المشهد، في محاولة التصدي لعودة الفكر الشمولي. فتلك مسؤولية تاريخية، لن يستطيع أحد التملص من نتائجها لاحقاً، لأن هذه الجزئية، تتعلق بالكلِّ الذي لا يمكن تجزئته. وهنا أهيب بوسائل الإعلام الكوردية، وإعلامييها، بتنشيط الصحافة الاستقصائية، والتي لازالت في حالة الكمون، وقد وجب إطلاقها اليوم قبل الغد، لتقدم للجماهير ما نعجز نحن عن تقديمه، وتلك رسالة لا ينبغي إغفالها أو القفز من فوقها، فكم من رئيس أو زعيم أو قائد فاسد، وبفضل هكذا نوع من الصحافة، تم جرفه إلى مزابل التاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Ez qurbano Besîko*قيل باللغة الكوردية: