المثقف التضليلي ..!

حواس محمود
 
هنالك فئة غير قليلة من أصحاب الأقلام  في العالم العربي تعيش على الارتزاق والتجارة الايديولوجية – ان جاز التعبير – وهي تعلمت واتقنت- اي هذه الفئة من أصحاب الاقلام –  اساليب وفنون الخطابة الشعارية النارية واللهابة والتي تخاطب العواطف لا العقول، وتسرح في الخيال لا العقل ، وتستوطن الوهم لا الحقيقة، هذه الأقلام اقلام تم تأجيرها بأثمان بخسة لدى سلاطين وحكام القرن الحادي والعشرين المستبدين الى أجل غير مسمى، فهم يظهرون لنا على شاشة التلفاز والفضائيات العربية المستقلة والحكومية سواء في برامج حوارية او عادية، (وعلى صفحات الصحف والمجلات والجرائد التي افسحت لهم المجال للكتابة الكيفية دون الالتزام بقواعد المنطق واحترام قدسية الكلمة وحرمتها ودورها في عمليات التغيير النهضوي  لإخراج الشعوب العربية من الحالة الأزموية العميقة الراهنة)، يدافعون عن كل ما هو خيالي ومخدر للعقول العربية وعن كل ما هو مزيف ومخادع ومناقض للتقدم والعلم والفكر العلمي الرصين . 
أما في البرامج الحوارية فهم عندما يظهرون فيها امام الرأي المقابل لا يناقشون زميلهم المناقش لهم، بل هم يدفعون بجملة من المقولات والشعارات والخطابات  المسبقة السبك والصنع والمجمدة في صندوق العقل-  للتشحين والتفريغ – والتي ينقصها الدم الثقافي والحيوية الفكرية ، وهم بذلك يبتعدون عن منطق الحوار العقلاني والموضوعي، وهمهم الأوحد هو النطق بما حفظوه وبما لقنوه به – كطلاب الابتدائية- من ولي النعمة والسلطة والجاه والمال والعيش ، الذي اغدق عليهم بفتات رخيص  لكي يستطيع هذا الكاتب أو الاعلامي ان يعيش ويعيل افراد عائلته بدون عزة نفس  وبدون كرامة وبدون بأس ورفع رأس ! ولذلك فهم ينطلقون من مبدأ ” اشحن واقبض “! اي كلما دافعت عن الدكتاتور الذي أنعم عليك بفلوسات ودريهمات بخسة وكلما تفوهت بجمل وشعارات تخدم سلطة الدكتاتور، وكلما كنت حفيظا  وناطقا ومفوها كلما كان الدفع لك اكثر، ولذلك فإن  مثقف أو اعلامي السلطة  مقابل تأمين رزقه وقوت يومه فإنه يسبب – من حيث يدري أو لا يدري – المصائب والويلات والكوارث لشعوب بأكملها بإدامة الاستبداد وادامة القهر والظلم، وتشويش الجماهير التي تضيع بوصلة التغيير بشكل شبه دائم وتدخل المجتمعات وبخاصة العربية دوامات عنف وتخلف وفساد وظلام واظلام على مدى عقود وحقب زمنية متتالية تتجاوزها كل الثورات الاصلاحية والسياسية والتكنولوجية والمعرفية وهي صامدة في أماكنها ممانعة لا تتزحزح قيد أنملة، انه العقل السجالي لا العقل الحواري، السجال بمعنى النقاش من أجل النقاش لا الحوار لأجل معرفة ماذا يقول الطرف المقابل والاستماع اليه ومن ثم مبادلته بالافكار والنقاط الخلافية، لأن الحقيقة ليست مطلقة، انما نسبية، وهذا يدل على وجود عجز بنيوي كبير في منظومات الأفكار لكل الأيديولوجيات العربية التي اثبتت فشلها وباعتبار أن المثقف لم يختط لنفسه مسارا حرا وأراد أن يكون تابعا للسياسي لذلك ظل يتخبط في عمى هذه الأيديولوجيات هنا وهناك، ولم يكتف بهذا بل نشر الغسيل الأيديولوجي على الفضائيات العربية ووسائل التواصل الاجتماعي لكي ينشر هذه الثقافة المبتذلة على أوسع نطاق شعبي، في ظل غياب تأثير المفكرين الكبار أو محدودية تأثيرهم كالطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري هشام شرابي وادوارد سعيد  وعبد الله العروي ومحمد اركون وحسن حنفي  وعلي حرب وكريم مروة  ونصر حامد ابوة زيد وغيرهم. 
ان نموذج المثقف الذي نتناوله هو نموذج المثقف التضليلي الذي لا يشعر بالمسؤولية أو يقظة ضمير أو صحوة عقل، وهو ينسى أو يتناسى أن نهضة الشعوب تتطلب من الكل وبخاصة من اصحاب القلم والضمير مزيدا من التضحية الفردية في سبيل الانقاذ الجماعي، وهذه الظاهرة التي أتناولها موجودة وبقوة في الصحافة المقروءة والمرئية وهي تؤثر سلبا – اضافة الى عوامل اخرى- في نمو وعي الشعب بالموضوعات والمسائل الديموقراطية وحرية التعبير، ان هؤلاء المثقفين والاعلاميين الذين يصفقون للحاكم بذرائع وحجج شتى انما هم يخدمون مقولة ” الفراعنة الجدد ” – أي الحكام المستبدين – بأن الشعوب العربية لم تبلغ بعد سن الرشد الديموقراطي!، أي أنها لا تفهم الديموقراطية وتحتاج الى الوعي بها، وكيف لها ان توعى ومثل هؤلاء المثقفين والاعلاميين يغذونها ليل نهار بكل ما هو مسيئ وضار وهدام للديموقراطية ؟، انها معادلة صعبة جدا حين يتم بث ثقافة الاستبداد والفساد عبر سيل اعلامي عرمرم ومن ثم يعجز المثقف المتنور أن يلعب دوره في ظل غياب الحامل الاجتماعي للتغيير، رغم ان الاستبداد قد كشفت أوراقه وتبينت ممارساته وفضحت خزعبلاته ومراواغاته وتوطؤاته مع الخارج – من خلال ثورات الربيع العربي – (رغم ادعائه انه ضد التدخل الخارجي، طبعا ليس بالنسبة له أي ان ذلك لا يعنيه  انما يعني المعارضين فقط  اذ يحلل لنفسه ما يحرمه على الآخرين) هذا نقد لهذا النموذج الخطير في المشهد الثقافي والسياسي العربي، أطرحه – وبكل ألم- برسم المثقفين العرب الذين في معظمهم يشحنون الجماهير في الفراغ ويقبضون ثمن هذا الشحن دريهمات بائسة من أولياء نعمتهم، علما ان المشهد العربي يحتاج الى ربيع ثقافي عربي يزلزل التصورات والأفكار القديمة التي ساهمت في تأخر الوعي العربي وتركه ضمن إطار الوعي الشعبوي، ولم يتم الارتقاء به الى وعي بأثر نخبوي، وعي متقدم يستطيع من خلال تفعيله مجتمعيا  تغيير احداثيات السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد في المدى القريب والمتوسط 
………………..

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

درويش محما* خلال الاعوام الستة الماضية، لم اتابع فيها نشرة اخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم اتواصل معها ولا من خلالها، والكتابة لم اعد اكتب واصبحت جزءا من الماضي، كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطا يائسا وفاقدا للامل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام ان يسقط الاسد ويهزم. صباح يوم…

إبراهيم اليوسف من الخطة إلى الخيبة لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة،…

سمير عطا الله ظهر عميد الكوميديا السورية دريد لحام في رسالة يعتذر فيها بإباء عن مسايرته للحكم السابق. كذلك فعل فنانون آخرون. وسارع عدد من النقاد إلى السخرية من «تكويع» الفنانين والنيل من كراماتهم. وفي ذلك ظلم كبير. ساعة نعرض برنامج عن صيدنايا وفرع فلسطين، وساعة نتهم الفنانين والكتّاب بالجبن و«التكويع»، أي التنكّر للماضي. فنانو سوريا مثل فناني الاتحاد السوفياتي،…

بوتان زيباري في صباح تملؤه رائحة البارود وصرخات الأرض المنهكة، تلتقي خيوط السياسة بنسيج الأزمات التي لا تنتهي، بينما تتسلل أيادٍ خفية تعبث بمصائر الشعوب خلف ستار كثيف من البيانات الأممية. يطل جير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى سوريا، من نافذة التصريحات، يكرر ذات التحذيرات التي أصبحت أشبه بأصداء تتلاشى في صحراء متعطشة للسلام. كأن مهمته باتت مجرد تسجيل نقاط…