«الأمة الرابعة» أنجزت «العمل القذر» فماذا بعد.. ؟!

د. ولات ح محمد
    في مقال بعنوان: هل الكورد لطفاء حقاً*؟ (يبدو أنه مكتوب في الأيام الأولى لقصف الجيش التركي لمدينة عفرين تمهيداً لاحتلالها قبل نحو عام ونصف) يقول الكاتب جان مارك الرابع إن الصمت المفاجئ للمجتمع الدولي عما يتعرض له الكورد في شمال سوريا (عفرين) من تهديد وجودي “يطرح سؤالاً يقلب العالم رأساً على عقب: هل الكورد لطفاء حقاً؟”. ويرى الكاتب أن الكورد حاربوا داعش نيابة عن العالم كله وأنهم دفعوا تكاليف تلك الحرب من حياتهم الاجتماعية والبشرية والعمرانية. ولذلك يسمي هذا النوع من المهام “العمل القذر” الذي لا يريد الغربيون ـ حسب قوله ـ القيام به بأنفسهم**. ويتابع قائلاً: ولكنهم (الكورد) عندما صاروا عرضة لتهديدات الجيران تخلى العالم عنهم وتركوهم يقتلعون أشواكهم بأيديهم الضعيفة والمتعبة أصلاً. 
    بعد احتلال عفرين بتلك الصورة عادت الحكومة التركية إلى التلويح من جديد باجتياح المدن الكوردية عقب إعلان ترامب نيته الانسحاب من شرق الفرات، ولكن الضوء الأحمر الأمريكي أوقف الغطرسة التركية آنذاك. اليوم عادت تركيا إلى تهديد الكورد ومناطقهم من جديد وعاد معه السؤال عن مصير الكورد ومدنهم وقراهم وعن احتمال تخلي العالم عنهم مرة أخرى. لو تمت العملية التركية حقاً فإنها ستلحق الضرر بكل مكونات المنطقة ومدنها، ولكنني أذكر الكورد تحديداً لأن المستهدف وجودهم وليس أي شيء آخر.
    يتساءل الكاتب (آنذاك) مستغرباً تخلي الغرب عن الكورد عندما يتعرضون لخطر وجودي على الرغم من كل ما قاموا به. وهو حديث يخص الجانب الأخلاقي للعلاقات الدولية، هذا الجانب الذي نسبته في قواميس القوى الكبرى في هكذا حالات لا تتجاوز الصفر في المائة. ينتهي كاتب المقال إلى أن الكورد يظلون الأكثر لطفاً من بين شعوب المنطقة أو الأقل سوءاً على أقل تقدير ـ حسب قوله ـ لأنهم كما يقول “الوحيدون الذين لديهم قيم ديمقراطية”، ويحذر من تركهم يغادرون بهذه الطريقة. 
    بعد مرور شهرين على نشر ذلك المقال كانت عفرين قد احتلت، و بعد عام من كتابة ذلك التحذير تعرضت المدن الكوردية الأخرى من جديد لذات التهديد ومن الجهة ذاتها. والآن عاد الجار ذاته إلى التهديد ذاته ويكاد يكون الموقف الغربي من كل تلك الحالات هو ذاته؛ فعلى الرغم من أن خطوطاً حمراء أمريكية أوقفت الهجوم التركي قبل ستة أشهر، إلا أن التهديد لم يتوقف والعملية ما زالت تشهد مساومات هنا وهناك تجعل مصير الكورد ومدنهم على كف عفريتٍ سبق له أن بث الرعب في قلوب الكورد في عفرين وما يزال. 
    في مقال آخر تحت عنوان (الكورد ضحايا للسخرية من القوى العظمى) للكاتب آلان فراشون (كتبه أيضاً في فترة التهديدات التركية السابقة) يندد صاحب المقال كسابقه بالموقف الغربي المتخاذل من الاعتداء على الكورد فيقول: “لقد كان الكورد سواء في العراق كما في سوريا، في طليعة الحرب ضد داعش. تاريخياً، لقد كانوا تاريخياً، وبشكل دائم ضحايا للسخرية من (طرف) القوى العظمى. أيجب حقاً أن تذهب بهذه الطريقة مرة أخرى؟ وثانية؟.
    العبارة الأخيرة لفراشون يرددها آخرون من أقوام المنطقة ولكن بطريقة أخرى، إذ يكتب أحدهم في مقال أو يتشدق على شاشة تلفزة أو في محاضرة ما بأن الكورد سيتعرضون لخديعة جديدة من الغرب وبأنهم لا يتعلمون من تجاربهم. أمام أولئك المتشدقين أضع هذه الأسئلة: ما الذي كان على الكورد فعله ولم يفعلوه؟ وما الذي فعلوه وكان عليهم ألا يفعلوه، وهم يشهدون الإرهاب يطرق أبواب مدنهم وقراهم ويهدد أهليهم؟ هل كان عليهم (مثلاً) ألا يقاتلوا داعش لأن الطرف الداعم هو الغرب الذي لا يمكن الوثوق به؟. وإذا كان على الكوردي ألا يثق بالغرب، فهل كان عليه أن يتعاون مع داعش ويسلمه مفاتيح مدنه وقراه ويفتح له أبوابها على مصاريعها نكاية بالحليف الغربي المخادع ولكي يثبت نباهته وذكاءه ويحمي نفسه من خديعة جديدة؟. وإذا كان دفاع الكوردي عن مدنه في وجه الإرهاب أمراً طبيعياً، فكيف كان بمقدوره أن يفعل ذلك دون مساعدة قوة كبرى في ظل ضعف المركز في ذلك الوقت وانسحابه من المنطقة؟. 
    هذه الأسئلة تؤكد أن الكوردي لم يكن أمامه خيار إلا ما قد فعل، بغض النظر عما إذا كان الغرب سيتخلى عنه فيما بعد أم لا، لأن ذلك محكوم بالمصالح والعلاقات بين الدول وليس بالأخلاق. ما فعله الكورد هو أنهم دافعو عن مناطقهم ووجدوا طرفاً يدعمهم في ذلك (مصلحة مشتركة)، فهل كان عليهم أن يرفضوا تلك المساعدة ويستقبلوا داعش المدعوم من جهات عدة؟. 
    جاء في إعلان قوات البيشمركة في إقليم كوردستان أن حصيلة العملية ضد داعش كانت أكثر من أحد عشر ألفاً بين شهيد ومصاب. وكانت قوات سوريا الديمقراطية قد أعلنت بعد معركة الباغوز عن رقم مشابه كنتيجة لعملية القضاء جغرافياً على التنظيم ذاته. الكورد في كل من سوريا والعراق أنجزوا “العمل القذر” فبذلوا دماءهم وضحوا بأرواحهم أصالة عن أنفسهم ونيابة عن العالم أجمع. من جهته لم يقصر العالم في كيل المديح للقوات الكوردية في الجهتين والاعتراف بفضلها وإنجازها المميز. فهل سيكتفي العالم بإلقاء قصائد المديح والتقريظ على الكوردي لتبقى المكافأة في حدود الكلمات الطيبة والقصائد، لأن قذارة المصالح الكبرى لا تدع أي فسحة للأخلاق أو للحقوق لتأخذ مكانها الصحيح في هكذا معادلات؟.
    في مقابلة مع قناة رووداو قبل شهور وصف المؤرخ والمفكر العراقي حسن العلوي الكورد بأنهم “الأمة الرابعة”. وعندما سأله الصحافي عن مقصوده بالأمة الرابعة قال “نحن في الشرق الأوسط ثلاث أمم (عربية، فارسية، تركية)، لكن الكورد هم الأمة الرابعة؛ فَهُم أقدم من العرب ويجب أن يرفع الكورد شعار “نحن الأمة الرابعة”. إذا كان الكورد أبناء واحدة من الأمم الأصيلة في المنطقة، وإذا كانوا قد أنجزوا “العمل القذر/ المقدس” على وجهه الأكمل وقضوا على الإرهاب نيابة عن العالمين القريب والبعيد (في الوقت الذي كان بعض أبناء الأمم الأخرى تؤويه وتربيه وتغذيه)، وإذا كان الكورد في نظر الآخر هم “الوحيدين الذين لديهم قيم ديمقراطية” من بين شعوب المنطقة، فلماذا في نهاية كل حدث وفعل “ليس لهم إلا الريح” بتعبير محمود درويش؟؟. 
   “الأمة الرابعة” في كل من باشور ورجآفا دفعت أثماناً باهظة وتحملت الكثير حتى أنجزت المهمة، ولكن ماذا بعد..؟. هذا السؤال يذهب ـ بدوره ـ في اتجاهين: الأول نحو الخارج: فإذا كان المثقفون والكتاب والكثير من الساسة يصفون تخلي العالم عن الكورد في كل مرة بالخيانة، فما الذي ينتظره هذا العالم القريب والبعيد من “الأمة الرابعة” بعد كل ما قامت به حتى يتوقف عن خيانته لها وينظر إليها كما ينظر إلى الأمم الأخرى، لا أكثر ولا أقل؟؟. أما الاتجاه الثاني للسؤال فهو نحو الداخل: فالكورد أنجزوا “العمل القذر” ضد الإرهاب (وهو الأصعب) وتحملوا تكاليفه، ولكن ماذا عن الفعل النظيف (وهو الأسهل) المتمثل في العمل على توحيد الرؤية والخطاب والموقف؟، ذلك الفعل الذي من دونه لن تقوم لـ”لأمة الرابعة” قائمة ولن يقف لها حجر على حجر. وحتى إن حدث ووضعتْ حجراً على حجر فإن أية ريح عاصفة بإمكانها أن توقع حجارتها وتهدم بناءها ليعود أبناؤها إلى سيرتهم الأولى.. وربما أسوأ. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المقال ترجمه الباحث والكاتب إبراهيم محمود عن الفرنسية ونشره في موقع ولاتي مه.
** يقصد الكاتب أن الغرب لا يقوم بذلك نيابة عن أبناء المنطقة، إذ بطبيعة الحال إذا داهم الإرهاب مدن الغرب سيضطر أبناؤها أيضاً إلى إنجاز “العمل القذر” بأيديهم، إذ يكونون حينذاك هم المعنيين بذلك في بلادهم.
*** هذا المقال أيضاً من ترجمة الباحث والكتاب إبراهيم محمود ومنشور في موقع ولاتي مه.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

درويش محما* خلال الاعوام الستة الماضية، لم اتابع فيها نشرة اخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم اتواصل معها ولا من خلالها، والكتابة لم اعد اكتب واصبحت جزءا من الماضي، كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطا يائسا وفاقدا للامل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام ان يسقط الاسد ويهزم. صباح يوم…

إبراهيم اليوسف من الخطة إلى الخيبة لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة،…

سمير عطا الله ظهر عميد الكوميديا السورية دريد لحام في رسالة يعتذر فيها بإباء عن مسايرته للحكم السابق. كذلك فعل فنانون آخرون. وسارع عدد من النقاد إلى السخرية من «تكويع» الفنانين والنيل من كراماتهم. وفي ذلك ظلم كبير. ساعة نعرض برنامج عن صيدنايا وفرع فلسطين، وساعة نتهم الفنانين والكتّاب بالجبن و«التكويع»، أي التنكّر للماضي. فنانو سوريا مثل فناني الاتحاد السوفياتي،…

بوتان زيباري في صباح تملؤه رائحة البارود وصرخات الأرض المنهكة، تلتقي خيوط السياسة بنسيج الأزمات التي لا تنتهي، بينما تتسلل أيادٍ خفية تعبث بمصائر الشعوب خلف ستار كثيف من البيانات الأممية. يطل جير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى سوريا، من نافذة التصريحات، يكرر ذات التحذيرات التي أصبحت أشبه بأصداء تتلاشى في صحراء متعطشة للسلام. كأن مهمته باتت مجرد تسجيل نقاط…