ماجد ع محمد
في إحدى فقرات “قلبي عارياً” مِن كتاب اليوميات يقول الشاعر شارل بودلير “بات من المستحيل تصفح أي جريدة لأي يوم في أي شهر من أي عام، دون العثور في كل سطر على علامات الفساد البشري؛ كل جريدة من أول سطر إلى آخر سطر، ليست سوى فظائع”، وحيث قال بودلير ذلك في الزمن الذي لم يكن فيه شيء اسمه إعلام الكتروني وفضاء مفتوح أمام الكل، وفيضان البث والنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فكيف يكون الحال إذن في هذا الوقت الذي صار بمقدور عدة أنفار تأسيس وكالة أو موقع الكتروني لا يلتزم بأدنى معايير المهنية، وينجح ربما بجذب المئات إن لم نقل الآلاف حوله، طالما أنه لا يكتب إلاّ وفق مزاج ورغبات فئة بشرية خصبة بولادة أفكار وتوجهات التعصب.
وحقيقةً إن الإعلام سواء أكان المكتوب منه أو الشفاهي يلعب دور خطير للغاية في تأجيج الصراعات وتشحين الفئات البشرية بالحقد والكراهية ضد بعضها بعضا، وقد لا نكون ملمين بمن كان من أبرز الداعين من خلال التحريض على الفلسطينيين عبر الإعلامي لارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا 1982 على يد عناصر من حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي، ولكننا نرى الآثار القميئة للوسائل الإعلامية الفالحة في بث السموم والشحناء في المجتمع السوري في الوقت الراهن.
ومن أغرب ما صار إليه حال بعض الإعلاميين كأفراد أو حتى بعض رهط العاملين في المؤسسات الإعلامية الصغيرة للسوريين في البلد أو خارجه، هو انتقال بعضهم من موقع المشغول بتنوير عقول الناس، وكشف المستور أمامهم، والمساهمة في نهضة الجماهير، إلى منطق حصار المواطن في حيّز أيديولوجي معين، ومن ثم حجب المعلومات الحقيقية عنه بفضل الطوق العقائدي المحكم، ومن ثم التأثير عليه وتجييشه فيما بعد؛ حيزاً عقائدياً لامرئياً يمنعه حتى من معرفة ما يجري في مناطق ما في بلده أو في البلد المجاور، وبدلاً من أن يعمل الإعلامي على نشر ثقافة الود والتركيز على النقاط الإيجابية لدى الآخر المختلف، سواء أكان هذا المختلف ضمن حدود دولته أو خارجها، نرى بعضهم يعملون جاهدين لطمس أو تشويه الحقائق، وخلق الفتن، وإمداد الجبهات الشعبية بكل شيء ما عدا قيم الإخاء والتسامح.
إذ عدا عن اسلوب التحريض ونشر الاتهامات عبر التكلم بلسان المحاورين، وتقويل ما لم يقله الضيوف، وزرع الفتن من خلال التساؤلات الاستفزازية القائمة على الطعن ليس بالضيف فحسب، إنما وحتى بجمهور وملة ذلك الضيف الذي يستشعر الذل والإهانة من خلال ما يقوله ويتفوه به المحاور، وهو الاسلوب المعتاد الذي يلجأ إليه بعض أشهر معدي برامج الحوارات الساخنة في الفضائيات العربية؛ فمن الإفرازات النتنة لعالم الإعلام في سورية إبان الثورة السورية، تحوُّل صاحب السلطة الرابعة إلى متمِّم للسلطة التنفيذية في مناطق نفوذ السلطان العسكري الذي يستمد الإعلامي سلطته منه، إذ أن الإعلامي بدلاً من أن يكون المدافع عن كرامة المواطن، أياً كان دينه، مذهبه، عرقه، قوميته، رأيه السياسي أو الفكري، يصبح هو نفسه محط رعب ومصدر خطر لدى المواطن، وذلك عندما يتحول صاحب السلطة المعنية بمراقبة ما تفعله السلطات الثلاث الأخرى بحق المواطن وبالأخص السلطة التنفيذية إلى مجرد أداة بيد الجهة العسكرية التي يتبع لها الإعلامي، فيغدو الإعلامي أشبه ببلطجي لدى تلك الجهة، وبالتالي تصبح السلطة الرابعة هي الأخرى مشاركة في عسف السلطات التنفيذية في مكان تواجدها.
ولا شك أن تحول بعض إعلاميي الثورة إلى مصدر للكراهية ورمي السهام المسمومة لم يأتي من فراغ، إنما أتى من ثقافة المجتمع الذي ترعرعوا فيه سنوات طوال على إيقاع إعلام النظام المستبد، باعتبار أن النظام السوري طوال العقود الماضية كان مدرسة لتخريج إعلاميين محقونين بأيديولوجيا الاستبداد، ولم يكتفوا بأن غدوا مجرد أبواق له، إنما وتحوّل بعضهم إلى جهات تصدر الأحكام أيضاً، ومنهم على سبيل الذكر وليس الحصر الإعلامي الراحل علاء الدين الأيوبي، صاحب برنامج “الشرطة في خدمة الشعب” الذي كان أدائه أقرب إلى التحقيق والاستنطاق في الأفرع الأمنية، وذلك بدلاً من المحاورة وكشف الحقيقة من خلال اللقاءات الخالية من تلويحات العقاب؛ وإذا كان النظام المستبد قد أنتج هكذا إعلاميين بكونه الآمر والناهي والقابض على أنفاس البلد بشراً وشجراً وحجرا، فكان من المفروض أن يتم التأفف من هكذا نماذج إعلامية بعد اندلاع الثورة، إلا أن الواقع مع مضي ثماني سنوات على إنطلاق الثورة السورية كان كفيل بإنتاج عشرات النماذج العملية التي جاوزت حالة الأيوبي النظرية.
ومن كل بد أن للإعلام دور محوري كبير جداً في تشكيل الرأى العام أوان السلم وربما بشكلٍ أكثر أهمية وأكثر خطورة وقت الأزمات، حيث يعمل على إيصال أنباء المجريات إلى الجمهور بكل الوسائل المكتوبة والمسموعة كالإذاعة والتليفزيون، والمواقع الإلكترونيّة المختلفة في الوقت الراهن، إضافة الى وسائل التواصل الاجتماعي التى أصبحت مُتاحة لكل الناس بفضل انتشار الإنترنت في كل مكان، ومن المفترض أن يعمل الإعلامي المتزن والموضوعي على نقل الحقيقة كما هي وتوثيقها وإبلاغها للجمهور بكل أمانة، بما أن الصحفي هو مؤرخ اللحظة، حسب تعبير ألبير كامو، وليس العمل على التضليل وتشويه الحقائق وخداع الجماهير إرضاءً لأهوائهم الأيديولوجية، أو إرضاءً لمن يلوحون له ببعض الفتات؛ ذلك المال الذي جعله في مصاف مرتزقة الحروب الذين تمنعهم الجهات المتحكمة بهم من أن ينحازوا إلى الحق والعدل والإنصاف، بل وتدنيهم أكثر من ثقافة ومزاج حاملي السهام والسكاكين وليس كحملة للكاميرات والأقلام.
وصحيح أن إيلاء الأهمية للإعلام العسكري في العالم أجمع ومن ضمنه منطقتنا، هو من بديهات الأمور وخاصة أن المنطقة تعيش مخاض التغيير، ولكن أن يتحول الإعلام المدني برمته إلى إعلام مشحون بكل أمصال البغض والانتقام كما هو حال الإعلام الحربي، فهذا هو العار الذي لحق بعشرات الأكشاك الإعلامية المعنية ببيع بضائعها الكلامية للسوريين في الداخل والخارج، وحيث أن من أبرز مقابح الإعلام العقائدي المحقون أنه منحاز إلى درجة فقدان المصداقية الكاملة لمعظم ما يصدر عنه، طالما أن الإعلامي لم يعد ذلك الكائن المعتدل والمعني بتقصي الحقائق وإيصال أنباء الوقائع كما هي، إنما غدا الإعلامي المتخندق والمحقون بأمصال الجهة التي تموله طرفاً محارِباً كما هو صاحب السطوة العسكرية، وذلك سواءً كان ذلك الإعلامي يعمل لدى نظام بشار الأسد أم لدى داعش أم لدى هيئة تحرير الشام أم لدى الفصائل أم لدى قوات سورية الديمقراطية المعروفة باسم “قسد”.
وقبيل الانتهاء من هذه الوقفة، ثمة تساؤلات تخطر ببال الكثير من السوريين، منها: فيا ترى هل طبائع بعض الإعلاميين واستعدادهم الشخصي كان وراء بثهم المتواصل للشحناء مع نشر الأنباء وانحيازهم السافر لتجاوزات العسكري أينما كان في تغطية الأخبار؟ أم أن الصراع الدموي أفقدهم الصواب وغدا حال بعضهم كحال الدهماء؟ وهو ما دفع بالكثير من الإعلاميين الى الاكتفاء فقط بالترويج لمن يتوافق مع أهوائهم السياسية، ولمن تطوع الإعلامي بالدفاع عنه حقاً أو باطلاً كما يفعل عادةً أي متعصب من أفراد العشيرة ـ الكتلة البشرية المهيأة للاجتماع على فعل الشر أضعاف الرغبة بفعل الخيرـ وبالتالي صار ديدن بعض هؤلاء الإعلاميين المشار إليهم ودورهم الأبرز كامن في جَعل سخام من يميلون إليه أيديولوجياً إلى بياضٍ أكثر نصاعةً من ثلوج قمم الجبال التي لم تصلها دخان المصانع، وإلى جانب ذلك صارت من مهامهم الأساسية نقل الأخبار البشعة عن الآخر، مع العمل ليل نهار على استقباحه قدر المستطاع من خلال أي خبر أو تقرير منقول عنهُ؟.
عموماً من شبه المؤكد أننا في مجمل الحالات المذكورة أعلاه نكون أمام نسخ إعلامية ممقوتة لا تتصف بأي إنصاف أو موضوعية، لا في عرف الصنعة وأخلاقيات المهنة القائمة على نقل النبأ بكل شفافية بدون هيمنة الرأي، ولا بحق الجهة التي يُكتب عنها النبأ، طالما كان الخبر أو التقرير لا يُرتَّق إلاّ بجُملٍ نُسجت من مشاعر متضادة تنوس بين التقريظ الفادح أو الاستبشاع القادح.