مركز ليكولين للدراسات والابحاث القانونية
بدايةً ومن منطلق أنّ تناول الأحداث والقضايا في العالم بقالبٍ قانوني بات يبدو وللاسف مدعاةً للسخرية واللامبالاة ومدعاة أيضا لدى الكثيرين لنعت أصحابها بالسذاجة والسطحية نتيجة إيمان الناس أو الكثيرين على الأقل بأن السياسة والمصالح والنفوذ هي التي تحكم وتتحكم في أحداث وقضايا العالم، وهي المهيمنة على منابر القانون والشرعية وأجهزتها والقائمين عليها وقراراتهم .
من ذاك المنطلق رأينا كمركزٍ قانوني ضرورة التوضيح بأننا لا نجهل ولا نتجاهل ذلك ولكننا رغم هذا نؤمن برسالتنا القانونية وضرورة استمرارها حتى ولولم نستطع أن نفيد الواقع في شيء ، فحسبنا أّن ندوّن للتاريخ والأجيال .
نأتي الآن الى موضوعنا المتمثل في وجود رغبة تركيّة جامحة قديمة متجددة في إقامة منطقةً تحت مسمّى ( آمنة أوممر سلام ) في سوريا، وقد بلغت هذه الرغبة أوجها هذه الأيام من خلال حشدها لقواتها على خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية وتلويحها باستخدام القوة لفرض إقامة هذه المنطقة ولوبصفة منفردة ودون إتفاق، بعد فشل المحادثات التي جرت في أنقرة بهذا الخصوص بين الجانبين التركي والأمريكي وتعثّر الوصول الى أي اتفاق بينها .
وتتلخص طبيعة أوشكل المنطقة التي ترغب تركيا في إقامتها داخل العمق السوري بالبنود الآتية وفق ما أوردته صحيفة الشرق الأوسط :
أ – التوغل التركي داخل الأراضي السورية على طول الشريط الحدودي الواصل بين مدينة جرابلس السورية وحتى موقع فش خابور على حدود العراق ، وبعمق (٢٠ ميل) أي ما يتجاوز (٣٢ كم ) تقريباً .( هناك تسريبات تفيد بأن تركيا تطلب الدخول حتى عمق ٤٠ كم ) .
ب – إخراج قوات سوريا الديمقراطية من كامل تلك المساحة مع كامل اسلحتها الخفيفة والثقيلة .
ج – أن يكون لتركيا دور أساسي ورئيسي في تلك المنطقة وأن يتم منحها حق الملاحقة والتوغل .
تلك هي أبرز ما تمسكت تركيا بها من مطالب واصطدمت برفض أمريكي لها وبالتالي فشل المباحثات، حيث وافقت الولايات المتحدة على عمق خمسة كيلومترات فقط وليس ضمن الطول الذي حددته تركيا، كما رفضت إبعاد كامل السلاح بل أنواع محددة من السلاح الثقيل، وأيضاً اشترطت الولايات المتحدة قيام دوريات مشتركة على الحدود، فيما اشترطت قوات سوريا الديمقراطية أن تكون الدوريات لقوات محايدة دولية.
في مقابل ذلك ولجهة روسيا كأحد الفاعلين الأساسيين في سوريا وكمتحكم شبه كامل بالنظام السوري، لا بد من الإشارة الى أنه ورغم وجود توافق تركي روسي في ادلب وتمتين ذلك التوافق والعلاقات بصفقة صواريخ الإس (٤٠٠)، إلا أن هناك أيضاً عدم رضا روسي حيال إقامة تركيا لتلك المنطقة وطبيعتها لاعتبارات لا نرى لتبيانها من ضرورة هنا.
تلك هي وبإيجاز أبرز ملامح هذه القضيّة التي سنحاول أن نفرد لها قراءة قانونية وافية قدر الإمكان.
أولاً: ما المقصود بالمنطقة الآمنة ؟
في الحقيقة.. وعلى الرغم من أن للمجتمع الدولي تجارب عديدة سابقة تحت هذا الوصف والمسمى أي (المنطقة أو المناطق الآمنة ) ، إلا أنه ما زال تعبيراً ليس رسمياً، وليس في القانون الدولي عموما والقانون الدولي الإنساني كمرجع خاص في القضايا والظروف المتعلقة بهذه المنطقة أي استخدام لهذا المصطلح ، فإتفاقيات جنيف الأربعة ١٩٤٩ وملحقاتها وإن أتت على ذكر تعابير قريبة ومشابهة لها كالمناطق الطبية أو المناطق المحايدة أو المناطق منزوعة السلاح إلا أنه ما من وجود لمسمى المناطق الآمنة .
هذا من جهة، من جهة ثانية لا يمكننا أيضاً التعويل على التجارب السابقة تحت هذا الوصف لاستخلاص مفهوم أو ظيفة ثابتة وواضحة لهذه المنطقة نظراً للاختلاف الواضح فيما بينها، سواء من حيث طبيعة ومتطلبات تلك المنطقة أومن حيث شروط وجوب إقامتها أو فرضها وأيضا من حيث الجهة أو الجهات صاحبة الحق والصلاحية في ذلك، نضيف الى ذلك عدم وضوح الالتزامات الناجمة عنها أوتبعات الاخلال بها وخرقها وما الى ذلك .
كل ما سبق يقودنا إلى الإكتفاء ببيان المقصود الشائع للمنطقة الآمنة وفق بعض المشتركات التي جمعت تجاربها السابقة .
فنقول بأن المنطقة الآمنة هي عبارة عن مساحة من الأرض يتم تحديدها والاتفاق عليها بين أطراف نزاع مسلح أويتم فرضها من مجلس الأمن الدولي أو تحالف دولي أو حتى دولة بمفردها بهدف اعتمادها واعتبارها منطقة محرّمة على الصدام والأعمال القتالية ، وذات أغرض وغايات انسانية ، بهدف حماية المدنيين داخلها وفتح ممرات لتلك الغاية عبرها .
وليست بالضرورة أن تكون حدودية كالمنطقة العازلة، كما أنها تكون مترافقة بوجود قوات على الأرض تؤمن حمايتها ، عادةً ما تكون قوات محايدة دولية ، وأيضا يترافق إنشائها عادة مع وجود فرض لحظر جوي فوقها
.
ثانياً: ما مدى نجاعة وفاعلية المناطق الآمنة في تحقيق الغايات المعلنة لإنشائها ؟
نظراً لغياب آليات وضوابط ومعايير وأحكام صريحة وواضحة بخصوص هذا الموضوع ، فقد كان دائماً ولا يزال مناسبةً للفشلً الذريع في تحقيق أهداف إقامتها وكانت وما تزال باباً للخلافات والأزمات عموما والحادة منها احيانا بين الأطراف والدول ، ويمكن تلخيص مظاهر ذلك في نقاط أبرزها :
أ – أثبتت التجارب السابقة لإقامة مثل هذه المناطق افتقارها الى التدابير الكافية والكفيلة بحماية المدنيين داخلها وضمان اسس عيشهم وسلامتهم بمنأى عن الأخطار والاعمال الحربية والعدائية المحيطة بهم ، حيث باءت بالكاد جميعها بالفشل ، ووقع مئات الآلاف ممن كانوا داخل تلك المناطق ضحايا الحروب والاعمال العدائية كالتي حصلت في البوسنة والهرسك ( مجزرة سيربينتشا وغيرها ) من قبل الجيش الصربي .
ب – إن قرار إنشاء المناطق الآمنة لا ينبع في كثير من الاحيان عن الغايات والاعتبارات الانسانية ، بل يكون خاضعاً لأبعاد واعتبارات سياسية بحتة ولتوجهات المصالح والنفوذ وحتى الغايات العنصرية والاستعمارية ، كالغاية والرغبة التركية من إقامة منطقة آمنة في سوريا ، وسنأتي على توضيح ذلك تباعاً .
ج – ليس بعيداً مما سبق اعلاه، فإن عدم حصر قرار إقامة مثل هذه المناطق بجهة وآلية واضحة من آليات الامم المتحدة ، خلق نوعاً من الفوضى والأهوائية لدى الدول في إقامتها ، إضافةً الى إنها خلقت الخلافات والازمات بينها بهذا الشأن .
فصحيح أن إقامة بعض المناطق الآمنة كانت بناءّ على قرارٍ من مجلس الأمن ويدخل قرارها بهذا الخصوص تحت الفصل السابع أي يتصف بطابع الفرض والإلزام، إلا أن ذلك ليس طريقاً حصريا لإقامتها، بل سبق وأن أقيمت مناطق آمنة بموجب تحالفات دولية خارج اطار الامم المتحدة ( العراق مثالاً ) ، أوحتى بقرارات منفردة ( المحاولة التركية الحالية ) .
ثالثاً : ما هي خلفيات وأسباب الإصرار التركي على إقامة منطقة آمنة في سوريا ؟
بقراءة دقيقة للدور التركي في سوريا خلال سنوات الحرب السورية القائمة، سيبدوجليّاً بأنها كانت وزالت جزءاً أساسياً من المشكلة والأزمة وتفاقمها وسبباً لها ولم تكن وسيط خيرٍ وحلٍ، ونكتفي بذكر ما قدمته من دعم لا محدود وواضح للتنظيمات الارهابية في سوريا وعلى رأسها تنظيم الدولة الاسلامية، وأيضاً عبر احتضانها لقسم كبير لما تسمى بالمعارضة السورية السياسية والعسكرية و دعمها وشراء ذممها ومن ثم استغلالها وابتزازها وتسخيرها كلياً لأجنداتها الخاصة . ناهيكم عن استغلالها لمعاناة السوريين عموما وتوظيفها في خدمة مصالحها الاقتصادية ( العمالة في تركيا وتلقي الإعانات عليهم ) أو مصالحها السياسية ( سلاحا ضد اوربا ).
والأخطر والأسوأ من كل ما سبق هوأن بلغت بها الجرأة والتمادي نتيجة التخاذل الدولي وخنوعه عن مسؤولياته الى احتلال عفرين السورية وممارستها المستمرة الى الآن لمختلف الانتهاكات والجرائم المصنّفة معظمها حسب القانون الدولي تحت جرائم الحرب والابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية والتطهير العرقي.
لم يكن سرد ما سبق وبإيجاز شديد إلا تمهيداً ضرورياً وواجباً لإثبات حقيقة الدور التركي ونواياه في سوريا، وبأن المنطقة الآمنة التي تسعى بشراسة لإقامتها، لا علاقة للإنسانية والأمان بها لا من بعيد ولا قريب، وإنما هي بالنسبة لها منفذٌ وقناعٌ جديد يُضاف الى أقنعتها السابقة في بلوغ أطماعها التوسعية والأهم منها استهداف الكورد داخل وخارج حدودها والحيلولة بينهم وبين نيلهم لأية حقوق.
تقنّعت بقناع الانسانية في ايواء السوريين ومن ثم استغلالهم، وبقناع الدفاع ورفع ظلم النظام عنهم في شراء المعارضة وتسخيرهم عبيداً لها، وبقناع الخطر على امنها القومي في احتلال عفرين واضطهاد وابادة الكورد، والآن تتقنع بخلطةٍ تجمع الدوافع الانسانية والأمنية وغيرها معاً لتوسيع رقعة الاحتلال وضرب وامحاء أي خصوصيةٍ للكورد ومناطقهم.
لا يسعنا في الختام إلا أن نخلي مسؤوليتنا ونحذّر العالم من أنّ المنطقة الآمنة التركية لو تم السماح بإقامتها ستكون على النقيض من مسماها وغاياتها، وعوض أن تكون لأغراضٍ إنسانية ستكون ضدّ الإنسانية لا محالة.
في: ٣١- ٧ – ٢٠١٩
مركز ليكولين للدراسات والابحاث القانونية. ألمانيا