المعارضة الرسمية وضياع الهوية السورية

رياض علي
منذ فترة ليست ببعيدة دار حديث بيني وبين أحد الأشخاص الذين تولوا المسؤولية في الحكومة السورية المؤقتة، وبالتحديد في المجالس المحلية، وكان الحديث يتمحور حول ضرورة تقبل السوري للسوري الآخر بغض النظر عن القومية والعرق والدين واللغة وماشابه، وأن سوريا يجب أن تكون لكل السوريين، وحفَّزني الموضوع على توجيه سؤال له عن السبب في عدم التدريس باللغة الكردية في منطقة عفرين إلى جانب العربية، وهذه المنطقة قد تكون الوحيدة التي لايمكن لأحد أن يشكك بأن الغالبية العظمى إن لم نقل كل سكانها وأهاليها هم من الأكراد، فكان جوابه بأن ما ذكرت يعتبر خرقا للقوانين السورية الموجودة التي تحتاج الى الكثير من التعديل من قبل البرلمان الجديد ان كتب لنا أن نرى سوريا الجديدة بدون حكم البعث وآل الاسد، 
فأجبته بأن كلامك كان سيكون مقنعا لو أنكم لم تفرضوا التعليم في المدارس باللغة التركية في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، (وهي أسماء للعمليات العسكرية التي قامت بها تركيا في الأراضي السورية)، ولو لم تقم المؤسسات الموجودة في تلك المناطق بكتابة قراراتها وتعاميمها باللغتين التركية والعربية، بل أحيانا تكون التركية هي الأصل وتتم الترجمة إلى العربية الركيكة من الأصل التركي، وكان من الممكن وضع هذا الكلام في خانة الكلام المعقول لو لم يتم رفع العلم التركي في المدارس والمؤسسات “السورية” في الداخل، وكتابة اللافتات والشاخصات المرورية باللغة التركية.
ثم أكملت حديثي عن قيام المجالس المحلية باصدار شهادات القيادة مروسةً برمز الدولة السلجوقية (والسلاجقة هم من السلالة التركية ومؤسسها هو طغرل بك)، بدلا من أن تكون مروسة بمايدل على انها صادرة عن مؤسسة سورية مستقلة وحرة وليست تابعة، وكذلك قيامها بإلزام مالكي أشجار الزيتون بدفع نسبة مئوية (أتاوة)، قد تصل إلى الثلاثين في المئة من الانتاج إلى المجالس المحلية، فكان جوابه صادماً ليس لي فقط وانما لغالبية الموجودين أيضاً، حين قال إن ماذكرت هي عبارة عن أخطاء فردية،!!!! صادماً لأنه من المعلوم أن الخطأ الفردي يمكن أن يصدر عن مسؤول معين في لحظة ما، ويتم تداركه في وقت قصير جداً، مع فرض عقوبة على المخطئ أقلها التنبيه، لا أن يتم العمل بهكذا أخطاء من قبل جميع المؤسسات الموجودة، ولاسيما في مسالة رفع العلم غير السوري، والاستمرار بها وكأنها نهج يجب على الجميع اتباعه.
 حقيقة ان حجم الكارثة لايقف عند المجالس المحلية فقط بل يتعداها إلى الجهات الأخرى كالعسكرة والشرطة والقضاء، فحالات القتل خارج القضاء والاعتقال التعسفي والخطف لطلب الفدية والتعذيب وعمليات السرقة والنهب ومصادرة الأملاك بلا مبرر، وغيرها من الموبقات التي تمت وتتم في تلك المناطق، من قبل الفصائل العسكرية الموجودة كالحمزات والعمشات والسلطان مراد وغيرها، لا يمكن لعاقل أن يتصور بأنها تصدر عن فصائل عسكرية تدعي أنها جزء من الثورة، أو أنها مناوئة لنظام الأسد، فتلك الأفعال هي ذاتها التي إرتكبها ويرتكبها نظام الأسد بحق الشعب السوري، ولكنها للاسف تمت في حالتنا هذه من قبل تلك الفصائل التي لا يمكن وصفها إلا بمجموعة من المرتزقة ومتسلقي الثورة، دينهم وديدنهم هو المال والمنصب وان كانا على حساب كرامة السوريين.
وواقع القضاء في تلك المناطق ليس أحسن حالاً مما ذكرناه، فلو أمعنا النظر إلى أسباب معاناة الشعب السوري في ظل حكم آل الأسد، سنجد بأن عدم استقلال السلطة القضائية، وتحكم السلطة التنفيذية وتدخلها في كثير من الأحوال في شؤون القضاء، والذي كان ظاهرا بصورة جلية بترأس رئيس الجمهورية لمجلس القضاء الأعلى، كان من بين أهم الأسباب التي ضاعفت من معاناة السوريين وأثخنت جراحهم طوال العقود الماضية، وكوننا تخلصنا من سطوة نظام الأسد في هذه المناطق، فهذا يقتضي أن يكون القضاء مستقلا وحرا، لكن كانت الكارثة كبيرة بحجم معاناة السوريين عندما تمت تسمية قضاة تلك المناطق، وهم محامون وقضاة سوريون، من قبل الوالي التركي،( والوالي يعادل المحافظ حسب التنظيم الاداري في سوريا)، وقانونا من يملك سلطة التعيين يملك بالمقابل سلطة العزل والاقالة، وهذا يعني أن حال القضاء في تلك المناطق، من حيث الاستقلالية وهيمنة السلطة التنفيذية، ليس أفضل مما هو عليه الحال في سوريا “الأسد”. 
وما يزيد من حجم الكارثة هو ان تلك الممارسات والسياسات التي تمارس في تلك المناطق، تتم تحت أنظار الحكومة السورية المؤقتة، بل وبمباركتها وتأييدها، كون رئيس هذه الحكومة قد تبنى تأسيس الجيش الوطني السوري، والذي ينضوي تحت رايته كل تلك الفصائل المارقة، مع العلم أن الحكومة المؤقتة لا تملك أدنى سلطة على أصغر عسكري من تلك الفصائل، ولا يمكن لرئيس الحكومة المؤقتة أو أي من وزرائه الدخول إلى هذه المناطق والتنقل فيها بحرية، إلا بعد أن تتلقى تلك الفصائل الأوامر من تركيا بضرورة تيسير الأمر والسماح لهم بالدخول، كما ان المجالس المحلية تتبع اداريا لوزارة الادارة المحلية في الحكومة المؤقتة.
وبغض النظر عن مدى قدرة الحكومة المؤقتة في تسيير الامور وادارتها في الداخل، فان التسلسل الاداري والهرمي يجعل هذه الحكومة هي المسؤولة قانونيا عن أخطاء وجرائم تلك المؤسسات والاجهزة في الداخل، وكون الحكومة هي الذراع التنفيذي للائتلاف ومنبثقة عنه بموجب قرارات رسمية، ويتم منح رئيس الحكومة ووزرائه الثقة من قبل الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، فهذا يقتضي قانونا أن يكون الإئتلاف مسؤولا بشكل مباشر أيضا عن تلك الأفعال، وليس مستبعدا أن يمثل هؤلاء أمام القضاء في حال تحقق حلم السوريين برؤية العدالة الانتقالية تخيم على الاراضي السورية، لأن الائتلاف السوري من خلال تأييده ومباركته لتلك الممارسات، يكون قد حاد عن خط الثورة وهدفها، فالشعب السوري قدم كل ما قدمه من دماء ودموع كي يتخلص من سطوة الطغمة الحاكمة، ومن سياسة الاقصاء والتهميش التي مورست بحقه طوال العقود التي مضت، وكي يستعيد كرامته المهدورة وحقوقه المصادرة، لا كي يستبدل ظالم ومستبد بظالم ومستبد آخر أو بمجموعة من الظالمين والمستبدين، فمعضلة السوريين لم تكن في شكل الدكتاتور ومظهره الخارجي، ولا في أصله العرقي والطائفي، بل كانت تكمن في استهتاره بكراماتهم ومصادرته لحقوقهم.
وأعتقد بأني لن أشطح كثيراً لو قلت بأن الإئتلاف الوطني وذراعه التنفيذي قد نحرا الهوية السورية على مذبح المصالح الاقليمية والدولية والتي تتقاطع مع المصالح الشخصية للكثير من أعضائه، فالسكوت عن كل تلك الممارسات التي تمت بل تبريرها والدفاع عنها، كفيل بأن يفقد تلك المناطق هويتها السورية ويزيد من شعور السوريين بعدم إنتمائهم لهذا الوطن ولهذه الأرض، فالكثير من السوريين كانت ولا زالت تساورهم الشكوك بأنه تربطهم بهذا البلد رابطة سامية ومقدسة تسمى بالمواطنة، كون عائلة الأسد، الأب والإبن، قد حولت سوريا بأكملها إلى مملكة خاصة لها وللبطانة الفاسدة التي ساعدتها على التحكم بمصير البلاد ورقاب العباد، حتى باتت عبارة “سوريا الأسد” تقال في كل وقت وحين، واذا كان استهتار المعارضة الرسمية بالهوية السورية قد وصل إلى حد القبول بأي إملاء يفرض عليها من الخارج، فهذا يعني إنها لم تختلف عن الأسد بل إختلفت معه فقط، وستكون الهوية الوطنية السورية الجامعة في مهب الريح في المرحلة القادمة.   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…