د. محمود عباس
جرت في الأونة الأخيرة تفعيل تجربتين ضمن الحراك الكردي في جنوب غربي كردستان، عكست ماضينا المؤلم، الأول التقارب من أجل الإتحاد، والثاني تصعيد الخلافات كتمهيد للانشقاق، كررت الظاهرتين بدون أن تسبقهما دراسة للماضي أو تحليل لمجريات الأحداث، الأولى قامت بها حزب (اليكيتي الكردستاني) بعد مؤتمرهم الثامن، والثانية جرت بيننا، (الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا واتحاد كتاب كردستان سوريا) والمحاولتان نجحتا وفشلتا في مآلاتهما، والنتيجتان ألتقيتا في الأبعاد السلبية، توصلت الأطراف السياسية إلى إثارة الشارع، وتوسيع الصراعات الموروثة في المجتمع، والتي عملت عليها السلطات المحتلة طوال العقود الماضية. والغرابة هنا أن حراكنا الثقافي، المأمول منا أن نكون قادة الحكمة والتنوير للسياسي والمجتمع، شاركنا بذاتنا على إعادة أنتاج التجربة المؤلمة وبعمق أكثر مما تم في السابق بين الأطراف السياسية.
ذكرنا في مقالات سابقة أن عدم الوعي ونضوب عواملهما الذاتية ودور مخلفات ثقافة الأنظمة وأجهزتها، هي من بين أهم الأسباب الحافزة لما جرى ويجري حاليا على الساحة. ولا شك كان لا بد من عرض المبررات السطحية، وتكثير المتطلبات والشروط بين البعض، للتغطية على الفشل، وعلى تجاهلنا للحقيقة المؤدية إلى طفو الحجج المباشرة، وهذه بدورها تؤكد على عدم القدرة في تفادي ما حصل ويحصل، وعلى أثرها تفشل كل المحاولات لرأب الصدع أو إنجاح الوحدة أو الاتحاد.
في مثال تجربة الوحدة بين الاتحادين الثقافيين، وسابقا بين الأحزاب الأربعة في الحراك السياسي لجنوب غربي كردستان، طفى على السطح دافع حب الظهور على الغاية إلى جانب التدخلات أو لنقل الإملاءات الخارجية والتي جلها من الوسط الكردستاني، وتم تناسي دراسة التجارب الماضية، ولم تتم محاولة عدم تكرارها، فتبين وكأن الهدف لم يكن بلوغ الهدف بقدر ما كان لتبيان الذات، ومن المؤسف أن هذه الظاهرة متفشية في المجتمعات الجاهلة والكردية من بينها، فحتى نحن ككتاب وسياسيين ومؤرخين، نتناسى الوطن عند حضور الذات، وجميعنا ننفيها، والنفي حقيقة، في الظاهر والعمل المباشر، لكن في اللا شعور هناك حقيقة أخرى تكاد تكون مخفية، ولا شك أنها النزعة البشرية، يطمح إليها كل فرد، وهي حب الظهور على حساب مصالح الأمة، مع أو بدون دراية لنتائجها، ولهذا أوطاننا تظل في معاناة، وستظل ما دامت هذه الظاهرة مهيمنة على ثقافتنا، فالأوطان التي بلغت مأربها هي التي قادتها شخصيات سخروا ذاتهم لها ولم يسخروها لذاتهم.
طفى بين طرفي الاختلاف، في اليكيتي واتحادي الكتاب والبارتي الديمقراطي، مصطلحات كنا قد تناولناها في مقالات سابقة، ومنها قضية (الخارج الهارب من المسؤوليات الوطنية والداخل الوطني) وبالتالي تم توزيع الأوصاف على خلفياتها، كمحاولة لنفي الأخر من الساحة، وفرض التبعية على الداخل، وهذه الظاهرة كانت قد تبنتها السلطات لتخفيف الضغط الخارجي عليه، وعليه تم نشرها وتحفيزها، وتأملنا حينها من جميع الأطراف الانتباه إلى نتائجها السلبية وتداركها، لكن وللأسف ولعمق تأثيرها، لا تزال تطفو ويتم التمسك بها كجدلية، ورافقتها منطق فرض الذات وإلغاء الأخر.
ولم يكن غريبا أن تتشابه نوعية الخلافات المسنودة على حجج شكلية وسطحية وتهم ضحلة إن لم تكن باطلة، من التشكيك بالتعامل مع الإئتلاف أو قبول إملاءات الإدارة الذاتية، في واقع حزب اليكيتي الكردستاني. وتوزيع المهام بين الخارج والداخل، والرئاسة واللجنة الإدارية، ومركزها ومركز الإتحاد والمكاتب وتبعيتها، وغيرها من الإشكاليات المطروحة كشروط مسبقة للتوحيد بين اتحادي الكتاب، وجلها شروط تعجيزية، عرضها الإخوة من اتحاد كتاب كردستان علينا بل وحاولوا فرضها، وهي تعكس حقيقة واحدة وهي أننا لا نريد الوحدة في لا شعورنا، بل تسيطر علينا نزعة الأنا وحب والظهور، قبل خدمة المجتمع والوطن، وقبل تقييم الكاتب في البعد المعرفي والإنتاج الثقافي والتنويري.
وفي الواقع لو كانت رغبة الوحدة نابعة من اللا شعور الوطني لتنازلنا لبعضنا عن بعض النقاط الجدلية، ولكان قبول الأخر سهلا، ولتم تعويم البعد الوطني على الذات أو الحزبية، ولهذا فتجربتنا في محاولة تقريب الاتحادين بينت عن فشلها وفشل كل من سيحاول تكرار تجارب الماضي باستخدام الأساليب الكلاسيكية السابقة سلفا، وليتنا أستمرينا كالشهور الأولى، الشراكة في النشاطات الثقافية وتقريب وجهات النظر والمواقف في بعض المسائل الثقافية، والتي كانت تقربنا مرة بعد أخرى، على الأقل في المفاهيم وعرض الحلول للإشكاليات التي كانت تواجه الطرفين، وكنا نتوقع أن هذه المسيرة كتجربة مخالفة للمحاولات الماضية، ستسهل إيجاد سبل جديدة ناجحة لعملية التقارب والإتحاد، لكن وللأسف تم ما تم، وفشلت التجربة كغيرها من التجارب، وعلينا الإقرار بها والعمل على عدم تسلط الإحباط علينا، وإعادة التجربة بأسلوب أخر، فنحن لا زلنا الحراك المؤمل منا توعية مجتمعنا، وتقييم حراكنا السياسي. رغم ما جرى معنا لا تختلف عن عملية الانشقاق الحاصل في اليكيتي الكردستاني، فلربما ظهور الخلافات ونحن في هذه المرحلة كانت أفضل فيما لو تم الإتحاد، وتم قبول شروط الإخوة الجائرة بحق الحركة الثقافية في الخارج، واستهلكت بعد فترة زمنية عوامل الإتحاد بيننا، وظهرت الاتهامات ومن ثم الانشقاق.
لجهالتنا، كحراك سياسي وثقافي، لا نمل القدرة المعرفية على وضع الحلول الملائمة لأزماتنا، فلذلك كثيرا ما نفاقم فيها، ولسذاجتنا لا نقف عند حدود الخلافات الحضارية والتي لو تم التعامل معها بوعي لكانت حالة صحية، لكننا وبسبب غياب الوعي الصحيح، نقوم باتهام البعض البالغة أحيان حد التخوين أو مهاجمة طرف على حساب طرف أخر.
ونتناسى أن الكردايتي ليست سلطة، بل هي ثورة فكرية، وإبداعات، وقوة إنتاج ثقافي وسياسي واجتماعي، من السهل تقديمه، وفي عصرنا هذا، من ضمن الوطن أو خارجه، والتعامل مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الحالية، لذلك يجب إعادة النظر في الأساليب والأسس والمعايير الماضية المترسخة في أذهاننا، ولا بد من مواكبة المتغيرات، والتقارب بحذر وبما تم فرضه علينا الظروف، وفي بدايتها عمل شيء ما للعقل العقائدي الجامد، والانحياز الحزبي على حساب الوطن، وعلينا إدراك حقيقة، وهي أن الشروط الذاتية لا تسمح لحراكنا تفضيل الغاية القومية والوطنية على المصلحة الحزبية أو الشخصية، كما وأننا وحتى اللحظة نعيد أنتاج ذاتنا الماضية بفشلها، ونقوم بتدوير مفاهيمنا ونظرياتنا للحاضر، فيما إذا كانت هناك نظريات، ومنذ أكثر من نصف قرن، على نفس النسق السابق، فنحن كسياسيين نعيش الانكفاء الحزبي، مثلما البعض منا في الحراك الثقافي في مجال التنظيم نعيش الجمود الثقافي…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
20/2/2019م