درس مجاني في حكم الناس

د. ولات ح محمد
    كان من السهل على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم قبل ثلاثة أشهر أن يقدما تسويغاً مقبولاً يحفظ لهما ماء الوجه عندما مُنيا بهزيمة واضحة أمام مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو الذي انتزع منهما بلدية إسطنبول في الانتخابات التي جرت نهاية مارس آذار الماضي. أقول كان ذلك سهلاً لأن فارق الأصوات بين مرشح المعارضة الفائز ومرشح أردوغان المهزوم كان 25 ألف صوت انخفض فيما بعد إلى خمسة آلاف فقط. ولكن أردوغان لم يستطع أن يتقبل تلك الهزيمة المشرفة والطبيعية فمارس سلطاته ونفوذه على اللجنة المنظمة حتى أجبرها على إصدار قرار بإعادة انتخابات إسطنبول فتأكدَ له أن هزيمته في المرة الأولى كانت حقيقية وأكثر رأفة به.
    المفارقة أن أردوغان الذي رفض الهزيمة بفارق خمسة آلاف صوت، خسر في انتخابات الإعادة بفارق أكثر من 700 ألف صوت. أردوغان الذي لم يعترف بفوز مرشح المعارضة بفارق خمسة آلاف صوت سارع هذه المرة إلى تهنئة منافسه عندما فاز عليه بفارق 700 ألف صوت. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو: لماذا خسر حزب أردوغان بلدية اسطنبول بعد 25 سنة من إدارته الحصرية لها؟. لماذا خسر أردوغان إسطنبول التي كانت خدماته لها سبب وصوله لمنصب رئاسة الوزراء ومن ثم رئاسة الجمهورية؟ لماذا تخلى الإسطنبوليون عن الرجل الذي وقفوا معه على مدى خمسة وعشرين عاماً؟، والسؤال الأكثر إثارة هو: ما هي الخلطة السرية السحرية التي وسعت الفارق في الأصوات بين مرشح أردوغان ومرشح المعارضة إلى ذلك الحد الكبير في غضون أقل من ثلاثة أشهر؟!.
    لا شك أنه كان للصوت الكوردي دور مهم في قلب المعادلة بدرجة ما؛ فقسم من الناخبين الكورد صوتوا لمرشح حزب المعارضة بقرار صريح من حزب الشعوب الديمقراطي، ولكن من المتوقع أن قسماً آخر منهم قد صوت ضد مرشح أردوغان رداً على سياساته التي انتهجها حيال الكورد في مختلف جغرافياتهم خلال السنوات الماضية؛ فقد قام بقصف المدن الكوردية في تركيا وهجر مئات الآلاف من سكانها الذين ذهب معظمهم إلى إسطنبول كما فعل أسلافهم في السنوات والعقود الماضية. كما كان موقفه من استفتاء إقليم كوردستان سيئاً للغاية، وتوج سياساته السيئة تجاه الكورد وحقوقهم ووجودهم باحتلاله لعفرين وطرد أهلها منها وتوطين آخرين فيها وتركها للسلب والنهب منذ أكثر من عام.
    لكن الأكيد أيضاً أن الصوت الكوردي غير قادر في كل الأحوال على إحداث هذا الفارق الهائل. إن النظر إلى الفترة الزمنية القصيرة بين جولتي الانتخابات ثم إلى التحول العددي الكبير في أصوات الناخبين يشير إلى أن أمرين قد حدثا داخل الشارع الانتخابي: الأول أن عدداً من الذين صوتوا لمرشح أردوغان قد تحولوا إلى التصويت لصالح مرشح المعارضة. أما الثاني فهو أن عدداً من الذين لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع في المرة الأولى (قسم من الكتلة الصامتة) قد قرروا هزيمة حزب العادلة والتنمية في إسطنبول رداً على محاولته تطويع نتائج الجولة الأولى لمصلحته هو.  
    الحالتان تشيران إلى أن هناك سخطاً في الشارع التركي من سياسات أردوغان وحزبه لأسباب كثيرة، وأن لديه رغبة في إنهاء حقبة هذا الحكم الذي أثار غضب الناس وسخطهم في السنوات الأخيرة نتيجة للأزمات التي تسبب بها الرئيس وحزبه؛ فعلى الصعيد الداخلي فقدت الليرة التركية الكثير من قوتها الشرائية وبات المواطن التركي يكتفي بتلبية نصف حاجاته الضرورية اليومية. كما أن أردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة صيف 2016 قام بالزج بعشرات الآلاف من مدنيين وعسكريين في السجون وفصل مئات الآلاف من وظائفهم بتهمة الانتماء إلى هذه الجماعة أو تلك، وقام بإغلاق صحف وحبس صحافيين، الأمر الذي شكل مؤشراً لدى الناس بأن الرجل ذاهب إلى القضاء على الحياة الديمقراطية والحريات العامة والتأسيس لحكم فردي مستبد مستغلاً وسائل وشعارات ديمقراطية وعلى رأسها الانتخابات ذاتها. وكانت النتائج الهزيلة التي فاز بها في الاستفتاء الذي جرى على التعديلات الدستورية  نيسان 2017 ثم نتائج الانتخابات الرئاسية في حزيران 2018 مؤشراً أولياً على هذا السخط الشعبي. 
    داخلياً أيضاً وبعد تراجع عدد مقاعد حزبه في البرلمان من وأجل تحقيق الأغلبية البرلمانية ذهب أردوغان إلى التحالف مع حزب الحركة القومية. بالنسبة لجمهوره الآيديولوجي كان هذا مستفزاً، أما بالنسبة للكورد فقد أظهر أردوغان على حقيقته؛ فلكي يرضي حليفه الجديد بدا حيال الكورد وقضاياهم وحقوقهم أكثر تشدداً من حليفه القومي نفسه. أضف إلى ذلك أنه بات يعمل لنفسه أكثر من عمله لحزبه وللدولة، فقد قام بسن القوانين وغير الدستور ونظام الحكم وقدم تنازلات لهذا وذاك من أجل أن يبقى هو الآمر الناهي، هو الأول والأخير في الحزب وفي الحكم. وهذا ما جعل الكثير من مؤيديه وحتى من أعضاء حزبه ينفضون من حوله، وعلى رأسهم قيادات بارزة يعدون من مؤسسي الحزب مثل أحمد داوود أوغلو وعبد الله غل وعلي بباجان الذين يبدو أنهم لن يكتفوا بالابتعاد عن أردوغان بل سيذهبون لتأسيس حزب منافس له. وللمرء أن يتوقع أعداد الناخبين الذين تأثروا بمواقف تلك القيادات في حزب أردوغان فصوتوا ضد مرشحه في إسطنبول؟.
    أما على الصعيد الخارجي فقد زج “الزعيم” بجيشه في الحرب في سوريا وأدخل بلاده في مشاكل مع مصر وليبيا والخليج، كل ذلك من أجل أمجاده الشخصية وبطولاته الوهمية التي فقد الكثير من جنوده حياتهم في سبيلها. كما أن علاقاته مع الإدارة الأمريكية بلغت أسوء حالاتها (وهو ما أثر مباشرة في حالة الاستقرار الاقتصادي التركي) مقابل انفتاحه على الروسي الذي قد يتغير في أية لحظة بضغط الأمريكي أو بعقوبات منه. إنها باختصار حالة تخبط يعيشها ويمارسها أردوغان منذ ثماني سنوات ودفع التركي والكوردي على حد سواء ثمنها من استقراره ومعيشته وأمانه. ولذلك وجد الناخب أمامه الفرصة ليخطو الخطوة الأولى للتخلص من سياساته المكلفة على كل الصعد.
    المفارقة هنا أن المدينة التي أوصلت أردوغان إلى قمة هرم السلطة في تركيا مكافأة له على سياساته التي كانت تصب في مصلحتها ومصلحة أهلها، هي ذاتها المدينة التي يبدو أنها ستنزله من برجه العاجي وتنهي أحلامه الوردية عقاباً له على سياساته التي لا تنمي سوى فردانيته ولا ترضي سوى غروره، سياساته التي كانت على حساب “خراب مالطة” كما يقول المثل، إذ يبدو أن الشارع التركي (كورداً وتركاً) غير مستعد بعد الآن أن يدفع المزيد من حياته ومعيشته تلبية وإرضاء لغرور السلطان وفردانيته المكلفة، ويبدو أن الناخب قد قرر أن يترك أردوغان يقع في شر أعماله وأن يدفع وحده ثمنها السياسي. 
    السلطان الحالم، في بداياته كان يحتاج إلى أصوات الناس فعمل على خدمتهم فرفعوه. وعندما ارتفع الرجل كبرتْ أحلامه وانشغل بها فنسي أنه واقف على ظهور الناس فتألموا لطول بقائه فأسقطوه. إنه درس مجاني لمن أراد أن يتعلم كيف يحكم الناس ويرفعهم، لا كيف يتحكم بهم ويعتلي ظهورهم ليرتفع هو ويبقوا في الحضيض.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…