حورِبوا كمؤمنين كما حورِبوا كملحدين

ماجد ع  محمد 
من كل بد أن السجال الذي حصل بين  مرشح حزب العدالة والتنمية في اسطنبول، بن علي يلدرم، وزعيم حزب الحركة القومية التركي المعارض، دولت باهتشه لي، الذي كان حليف الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا، حيال كلمة كردستان التي ذكرها يلدرم خلال زيارته الأخيرة لولاية ديار بكر ذات الأغلبية الكردية، يكشف عن بغض دفين لكل ما يتعلق بهوية الشعب الكردي، وهذا البغض الكامن خطورته في عدم اقتصاره على طائفة كبيرة من العوام، إنما في أنها تركن في قاع أقحاف الكثير من نخبة هذا البلد موالاة ومعارضة، وهذا الحجم من الحقد الدفين لا شك هو مهيأ للعدوان في أية لحظة، ومن المتوقع أن هذا المخزون الكبير من العداء والكراهية لا يزول بنيانه إلاّ بطريقتين إحداهما قائمة على الإقرار بالحقوق القومية لكل قوميات هذا البلد، وبالتالي ممارسة ديمقراطية حقيقية بعيداً عن السطوة القومية للعنصر الواحد، وإما بحدوث زلزالٍ كبير يشمل كل أنحاء الجمهورية.
عموماً ومن باب التذكيرِ وليس من باب احترام مشاعر الشوفينيين سواء في بلادنا أو في أي مكان آخر وجدَ العنصريون فيه، نشدّد على أننا لم نكن يوماً من أنصار العداء الدائم بين الأمم، ولا كنا من هواة توسيع الشروخ بين الأقوام والمجتمعات البشرية، ولا نحتفظ بنظرية المؤامرة في جيوبنا فنخرجها أينما حطينا الرحال، أو نصيح بمارد الفانوس لأن يجلبها لنا عند التصدي لأية واقعة عادية في الشارع، ولكن مِن شبه المؤكد أن مَن لا يقرأ أحداث الماضي ليتجنب الوقوع في شباك ما يضارعها راهناً هو ليس من أهل اليقظة أو الحكمة، وذلك باعتبار أن وقائع الغابر عادةً ما تكون دروس وعِبر لأبناء الحاضر، ومن كل بد ليس الهدف من العودة إلى مسرودات الماضي هو العيش فيها، إنما ليقي المرء نفسه أو المجتمع برمته من الوقوع في مهاوي جديدة تماثِل سعير الماضيات، وفي هذا الصدد يرى الكاتب المصري علاء الديب في(وقفة قبل المنحدر) أن”الإنسان المتحضر هو من يبقى تاريخه حياً، الأمم المتحضرة، هي التي لا تدفن تاريخها، ولا تكرر مآسيها”.
وبما أن واقع العلاقة التاريخية بين الشعب الكردي والسلطات التركية المتعاقبة بعد انهيار الدولة العثمانية لم تكن في أغلب فصولها على ما يرام، لذا يطيب لنا استحضار قصة منطوقة على لسان البهائم، عساها تختصر الكثير من الكلام والشواهد التاريخية بين طرفي المعادلة، أي الكرد والحكومات التركية منذ تأسيس الدولة الحديثة، ألا وهي قصة الذئب والخروف؛ حيث تقول الحكاية: بأنه صودف أن تواجد ذئبٌ وخروف معاً في وادٍ على ضفة نهر صغير، الخروف كان في الأسفل والذئب في المنطقة العليا من النهر، وبما أن الذئب هاجسه الأساس هو الانقضاض على الخروف واِلتهامه، فقال للخروف: إنك تعكِّر صفوَ المياه التي أشرب منها! فرد الخروف معاذ الله أن أقترف هكذا عمل، وكيف لي فعل ذلك والمياه قادمة من ناحيتك إلى الجهة التي أقف فيها وليس العكس، فقال الذئب للخروف: قبل هذه الفترة بستة أشهر تحدثتَ بالسوء عني! فرد الخروف: سامحك الله فأنا قبل ستة أشهر لم أكن قد ولدتُ بعد! ولأن الذئب ديدنه البحث عن ذريعة ما تمهِّد له اِلتهام الخروف، قال للحروف: أباك تكلم عني بسوء، وانقض على الخروف ليأكله.
حقيقةً فمَن يقرأ خلفيات استهداف الكرد مِن قِبل خاقانات السلطات المتعاقبة في كل مرحلة تاريخية قد يندهش من الأسباب والدوافع التي تذرعت بها السلطة الحاكمة لضرب الكرد، حيث في كل مرحلة راحت السلطات تختلق ذرائع هي بالضد من الحجج السابقة التي استخدمتها لضربهم، فمرة استهدفوا الكرد لأنهم طالبوا بحقوقهم القومية، ومرة شنوا الحرب عليهم بكون تركيا دولة علمانية متطورة والكرد مسلمون متخلفون ينبغي التخلص منهم، ومرة أخرى راحوا يشنون الحرب على الكرد بسيف الدين الإسلامي بعد تكفير الكردِ وجعلهم ملاحدة، حيث بناءً على فتاوي أئمة ومشايخ وقادة السلطة العلمانية الحاكمة غزيت ديار الكرد “الكفرة”.
ولا ريب أن غزو منطقة عفرين العام الماضي، على المستوى الاجتماعي كان تحت غطاء محاربة الكفرة والملاحدة الكرد في عفرين، وبناءً عليه رحّب أئمة جوامع تركيا ومرتادوها بغزو بلاد “الكفرة” في عفرين، وتحولت الكثير من الجوامع في تركيا ليس فقط للتشجيع والتهيؤ لعملية الغزو من خلال الإنشاد المتواصل لسورة الفتح التي عادةً ما تُقرأ إذا ما كان المسلمون في حالة التأهب لغزو ديار الكفار، إنما حسب شهود عيان تحولت بعض الجوامع إلى أماكن تجميع المتطرفيين الاسلاميين الراغبين بمحاربة الكرد “الكفرة”، وتم تكفير كل الكرد في عفرين تحت غطاء محاربة مسلحي (PKK) و(PYD)، وذلك حتى يكون العنصر الغازي في أتم حالات حقده وهمجيته السلوكية أوان الغزوة، وحتى يخال إليه بأنه غدا من سرايا نبي المسلمين وهو يحارب تحت أمرته كفار قريش؛ حيث ظهر بأن المسؤولين عن قرار الغزو في السلطة قد رفعوا راية الإسلام في العالم، وبناءً عليه استوجب فتح مضارب جديدة للملاحدة على تخومها في منطقة عفرين، ومعلوم للقاصي والداني أن الجهات المسؤولة عن أوامر شن الحرب واعتماداً على مزاج ورغبات الأغلبية من الموالاة والمعارضة وظّفت النص الديني، وكذلك الأمر وظّفت المجموعات البشرية المتدينة خير توظيف لغزو تلك المنطقة، وهذا طبعاً بعد شيطنة وتكفير أهلها على أكمل وجه في وسائل الإعلام، وبالتالي حشد الرأي العام التركي ضد كرد تلك المنطقة، على اعتبار أن سكانها ليسوا سوى كفار وملاحدة، لذا ينبغي غزو ديارهم.
بينما في عام 1923 حاربت السلطات الحاكمة الكرد آنذاك ليس لأنهم كانوا بوذيين أو صليبيين أو ملاحدة أو زنادقة، إنما بكونهم كانوا مسلمون فحسب!!! كما أن الشيخ سعيد بيران الذي بلغ عدد مريديه وأتباعه حوالي 12 ألف شخص كان يرغب بإنشاء جامعة دينية في مدينة “وان” إلا أن الزعماء والحكام ومسؤولي الدولة وقفوا حينها ضد محاولات الشيخ سعيد لتأسيس جامعة دينية! ولمحاصرة الشيخ سعيد والقضاء على ثورته الإسلامية أصدر مجلس العموم في البرلمان التركي في 25 شباط تعديلًا للمادة (1) من قانون العقوبات عن خيانة الوطن، والذي سن في 15 أبريل 1923، (القانون 556) إلى النص التالي: “منع تكوين المنظمات السياسية على أُسس دينية، وكذلك استخدام الدين في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، واعتبار الأشخاص القائمين بمثل هذه الأعمال أو المنتسبين إلى مثل هذه التنظيمات خونة”* كما ظهرت فيما بعد وثيقة لجلسة سرية لمجلس أركان الحرب التركي تبيّن فيها من خلال الوثائق وشهادات الشهود بأن ثورة الشيخ سعيد كانت ثورة إسلامية بحتة تهدف إلى إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة، وبناءً عليه عُمّم ذلك القرار الذي يحمل المرقم (1845) على جميع الإدارات الحكومية المعنية.
والمفارقة العجيبة أن السلطات الحاكمة في تركيا منعت آنذاك تكوين المنظمات السياسية على أُسس دينية، كما منعت استخدام الدين في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، واعتبرت الأشخاص القائمين بمثل هذه الأعمال أو المنتسبين إلى مثل هذه التنظيمات بمثابة خونة للوطن! بينما إذا ما استخدمت السلطات الحاكمة في الوقت الراهن الدين لتحقيق أهدافها فلا بأس بذلك، وهو ربما بنظر متخذي قرار الحرب عمل وطني صرف ولا يدخل في إطار الخيانة، كما أن استفادة السلطة من كل الحركات الدينية في سورية وخارج سورية فلا إثم عليه، لأن الإزدواجية  تقول صراحةً بأنه حرام على الكرد “الكفرة” الاستفادة من الدين الاسلاي بأي مجالٍ كان، بينما هو حلال على السلطات الحاكمة في كل زمانٍ ومكان!! وحيث أن العالم كله شاهد العام الفائت وكيف وضعت السلطات كل جهودها الإعلامية لشيطنة أهالي منطقة عفرين حتى يكون الغزو بغطاء ديني مشرعن ومستساغ من قبل الشارع التركي المتدين، وكذلك الأمر مِن قبل مَن استخدمتهم الدولة في غزوتها، عموماً نتصور بأن أي عاقل إن أمعن النظر قليلاً وقارن ملياً بين هذين الحدثين فقط، لا شك سيفهم حينها آلية تفكير الشوفينيين في تركيا وموقفهم العدائي الدائم من الكرد سواء أكانوا علمانيين أم ماركسيين، مسلمون أم ملاحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سعيد بيران قائد ثورة “الخلافة” الكردية/ بوابة الحركات الإسلامية 30/ حزيران/2015 . 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…